يا أهل ليبيا.. ليس لكم إلا الله
لا يستطيع عشرات أو مئات المحللين السياسيين أو خبراء التخطيط الاستراتيجي، معرفة سيناريو الأيام القادمة في ليبيا، فالأوضاع هناك رغم بساطتها الظاهرية وتيقن الكثيرين وأنا واحد منهم من نجاح هذه الثورة المباركة، إلا أن هذا النجاح قد يكون باهظ الثمن وربما يكون الأبهظ في التاريخ الحديث، وذلك لأسباب تتعلق بالشأن الليبي الداخلي، والأجواء الإقليمية والدولية المحيطية بالثورة الليبية، وأيضًا بطبيعة المهووس الذي انتزى على عرش ليبيا منذ أكثر من أربعين سنة، وهذه الأسباب والمتغيرات جعلت الكثيرين في ليبيا وخارجها يراهن على التدخل الخارجي والدعم الأجنبي وهو رهان على ما يبدو سيكون رهانًا خاسرًا.
الأحمق المطاع ودروس الثورة :
المتكلس على عرشه في قصر العزيزية بطرابلس الغرب، والذي قد أعيا الكثير من علماء الطب النفسي، وحار معه عشرات المراكز المتخصصة في تشخيص حزمة الأمراض العقلية التي يعاني منها، استطاع أن يستفيد جيدًا من دروس الثورة المصرية والتونسية الهامة، فإنه رغم حماقته وهوسه إلا أنه لم يقع في نفس أخطاء البائدين مبارك وبن علي والتي أدت لسرعة سقوطهما، فالطاغية المهووس لم يدع وقتًا لنقل الحدث وتأثير الصورة على الداخل والخارج، ولم يعتمد فقط على التشويش على إشارات البث الفضائي للقنوات الإخبارية المشاكسة مثل الجزيرة وغيرها، لكنه سرعان ما قطع كافة الاتصالات الداخلية والخارجية تمامًا، وفرض سياجًا حديديًّا على الداخل الليبي حتى أضحى الليبيون أنفسهم لا يعلمون ما الذي يجرى داخل بلادهم من تحركات وتغيرات في سير الثورة، بل إن أهل المدينة الواحدة لا يعرفون ما يكون في أحيائهم المختلفة، اللهم ما كان في الأجزاء الشرقية التي خرجت من قبضة المعتوه وأعوانه.
وبالتزامن مع قطع الاتصالات، بدأ الطاغية في الاعتماد على التحالفات القبلية وأثار النزعة العصبية التي لها الدور الأبرز في تسيير الأمور واتخاذ القرارات في بلد تغلب عليه روح القبيلة مثل ليبيا، واستخرج الإحن التاريخية والثارات القديمة من ركام الذاكرة، واستدعاها في ضرب قبائل الغرب بالشرق وتأجيج الصراع القبلي، فالقذافي الذي ينتمي إلى قبيلة صغيرة عمل على ترسيخ وجود هذه القبيلة في داخل النخبة العسكرية والإدارية، ومكن لهم جدًّا في داخل دوائر الدولة، وعمل الطاغية على أن تظل ليبيا غير منفتحة على العالم الخارجي لفترة طويلة، والتفاصيل المتاحة عن المزيج المركب للولاء والانتماء القبلي قليلة للغاية، للإبقاء على السلطة هي الاحتفاظ بقبيلته في المناصب الحيوية والمؤثرة في الدولة.
وانطلاقًا من الفكر القبلي الذي كان يحكم به الطاغية ليبيا ويفرض هيمنته علي هذا البلد الشاسع، ولأكثر من أربعين سنة، فقد عمل القذافي على إضعاف الجيش الليبي، وتركيز المناصب الحساسة والهامة في يد قبيلته والمقربين منه، حتى وصل الأمر لوجود تشكيلات عسكرية خاصة ببعض أفراد أسرته، وهي تشكيلات كبيرة ومسلحة بشتى أنواع الأسلحة، ولا تخضع لأوامر أي من قادة الجيش ولا حتى وزير الدفاع نفسه، وذلك للحيلولة دون قيام جيش قوي وقادر على التأثير في صنع القرار داخل ليبيا..
هذه التشكيلات المسلحة الخاصة لا تدين بالولاء إلا للقذافي وأسرته فقط، وتمتاز بوجود أعداد كبيرة من المرتزقة الأجانب خاصة من الدول الإفريقية الفقيرة التي قضى القذافي سنواته العشر الأخيرة في تقوية علاقاته معها، وبعض المرتزقة الأجانب من أوربا خاصة أوربا الشرقية من أوكرانيا وصربيا وبلغاريا، ومن شدة اعتناء القذافي بإضعاف الجيش أنه ألغى الرتب العسكرية بعد رتبة العقيد، وهي الرتبة التي يحملها الأحمق المطاع، وقد ظهر أثر هذه السياسة في قمع المظاهرات الأخيرة، فأفراد الجيش الليبي قد رفضوا ضرب المتظاهرين، بل وانضموا إليهم في ثورتهم، فلجأ الطاغية للتشكيلات الخاصة والمرتزقة لارتكاب الجرائم التي لا يقدم عليها ليبي أو مسلم أو إنسان مهما كانت ديانته من بشاعتها وقذارتها..
وهذا الأحمق المطاع يتوقع منه كل شيء وأي شيء، فعلى الرغم من بحور الدم التي أريقت فإنه يرى أن القوة لم تستخدم بعد، فالطائرات والرشاشات والمدفعية الثقيلة بعرفه لا تعد قوة أصلاً، مما يمهد الساحة لقبول أسوأ الاحتمالات من هذا المعتوه، إذ ربما يصل به الأمر لئن يضرب شعبه بالغازات السامة مثل غاز السارين، كما حذر من ذلك بالفعل أحد قادة المعارضة الليبية في الخارج.
عجز دول الجوار :
دول الجوار المحيطة بليبيا والتي يفترض فيها أن تلعب دورًا مؤثرًا في الأحداث الجارية في ليبيا خاصة بعد هبوب رياح الحرية والعدالة على ربوعها، تعاني من صعوبات كثيرة ومتنوعة تجعلها لا تستطيع أن تكون عاملاً فاعلاً في ردع هذا الأحمق المطاع، وذلك لأسباب مختلفة ومتباينة، فمصر وتونس أقرب الجيران قد خرجا للتو من ثورة مباركة ناجحة أطاحت بأرسخ عروش الطغيان في المنطقة ولكن بتكلفة مادية باهظة، وكلاهما يعاني من بقايا النظام البائد والذي يهدد تارة بعد تارة بالعودة مما جعل البلدين في حالة استنفار داخلي كبير ودائم على مدار الساعة، لإعادة البناء وإزالة آثار الحكم البائد..
والسودان قد خرج للتو من انقسام شطر البلد الكبير لشطرين شمالي وجنوبي، ناهيك عن الاضطرابات التي لا تهدأ فيه شرقًا وغربًا، أما الجزائر فهي في ترقب وتوجس من عدوى انتقال الثورة إليها بعد أن وضعتها ترشيحات المراقبين على رأس الدول المهيأة لاندلاع الثورة الشعبية فيها.
حتى مصر التي يفترض أن يكون لها دورًا بارزًا في الأحداث لوجود جالية مصرية ضخمة في ليبيا قدرها البعض بمليون مصري، لم تستطع أن توقف حمامات الدم هناك، بل وجدت نفسها في موقف الدفاع, بعد أن وجه للمصريين الأبله ابن الطاغية اتهامًا صريحًا بأنهم يقفون وراء المظاهرات هم والتونسيون، ووجد المصريون المقيمون في ليبيا أنفسهم في موقف بالغ الحرج، وتقطعت بهم السبل على الحدود المصرية تارة والتونسية تارة، في مشهد أضفى حساسية بالغة تجاه أي تدخل مصري منتظر في الثورة الليبية.
النفاق الأوربي والأمريكي الفاضح :
ليبيا بلد يفتقر لكثير من العناصر السياسية المؤثرة في المنظومة الدولية، فلا ثقل سكاني يحسب حسابه ويوضع في الاعتبار (أقل من 9 ملايين نسمة)، ولا أهمية جغرافية تؤثر في الخريطة الدولية، ولا تأثير يذكر على الملفات والقضايا الهامة في المنطقة، بالجملة هو بلد فقير في غالبية مرتكزات الاهتمام الدولي، إلا أنه يمتاز بالثراء الضخم وربما المهول في مصادر الطاقة الأهم في عالمنا المعاصر، وهما البترول والغاز الطبيعي، فليبيا واحدة من المنتجين الكبار للبترول والغاز في العالم، وبها حقول بترول وغاز مستغلة وأخرى بكر عذراء تقدر الاحتياطات فيها بمليارات المكعبات والبراميل، وهذا الثراء الطبيعي الضخم الذي صنع لليبيا مكانة خاصة في المشهد السياسي الدولي، وهو المشهد الذي تحكمه المصالح والعلاقات التبادلية أكثر من المبادئ والأخلاق والمثل.
ومن هذا المنطلق بات الموقف الأوربي والأمريكي الذي راهن عليه الكثيرون موضع اتهام وشك كبيرين، خاصة بعد الردود الباهتة والمواقف السلبية التي صدرت من العديد من الأطراف الدولية، فالنفط والغاز الطبيعي أكبر المحدّدات الجغرافية السياسية التي تسيطر على حسابات السياسة الدولية في الغرب؛ ففي الوقت الذي يواصل فيه الأحمق المطاع وجيوش المرتزقة الأفارقة، إغراق البلاد في حمامات الدماء، وأعداد القتلى تزداد يومًا بعد يوم وباطراد كبير ولم تستطع أي جهة أن تحصي أعدادهم بدقة، في هذا الوقت يبدو أن قادة الغرب منشغلون بإحصاء خسائرهم المتوقعة من جراء ارتفاع أسعار النفط، واهتزاز أسواقه العالمية، وتوقف عمليات التنقيب والبحث عنه، خاصة وأن معظم آبار البترول الليبية الكبيرة تقع في شرق البلاد، الذي خرج بالفعل من قبضة القذافي وأصبح في يد الثوار.
الغرب كان منافقًا لأقصى درجة وهو يرى مرتزقة القذافي وهم يهجمون يوم الخميس 24 فبراير بمنتهى الوحشية على مدينة الزاوية (100 كيلومتر عن طرابلس) ويقتلون الكثير من أبنائها، رأى الغرب ذلك فلم يتكلم أو يشجب أو حتى يعلق، ذلك لأن المدينة هي القلب النابض لتكرير النفط الآتي من الحقول النفطية الغربية وتصديره، فالنفط العربي أثمن بكثير جدًّا بل لا يقارن أساسًا بالدم العربي، خاصة إذا كان دم المسلمين، والمسألة ليست سلام دولي ومواثيق عالمية وهيئات أممية، بل مصالح في مصالح، ورفع الحصار الجوّي الذي كانت واشنطن قد فرضته على بلاد "ملك ملوك إفريقيا" بعد حادثة لوكربي، يندرج في هذا الاتجاه؛ ففي طرفة عين، رُفع الحظر، ودخلت إلى ليبيا أكثر من 100 مؤسسة نفطية للتنقيب عن النفط، في مقابل ما يقال إنه يبلغ 200 مليار من الدولارات التي جناها القذافي وحاشيته بفضل هذه العقود النفطية.
كما لا يجب علينا أن ننسى عقود شراء السلاح السخية التي حرص القذافي على إبرامها مع الدول الأوربية منذ عودة العلاقات الطبيعية بين ليبيا والغرب سنة 2005م، فطائرات عمودية من إيطاليا بـ 400 مليون دولار، تستخدم الآن في قصف جموع الثوار، ورشاشات من مالطة بـ 80 مليون دولار في يد المرتزقة والتشكيلات الخاصة لاستهداف الجماهير الليبية الثائرة في وجه الطاغية المهووس، وأجهزة رادار من ألمانيا استخدمت للتشويش على الفضائيات وقطع الاتصالات، هذه العلاقات والمصالح المالية الكبيرة لم يكن الغرب المنافق ليضحي بها من أجل عيون الشعب الليبي.
هذه الحقائق كلها عن الداخل والخارج الليبي تجعل الثوار الأحرار يقفون على حقيقة واحدة وأرض ثابتة، هي حقيقة أنه لا ناصر لهم إلا الله ، وأن التوكل عليه وحده هو العنصر الحاسم في الثورة، فدول الجوار عاجزة، والهيئات العربية ميتة، والغرب منافق لأقصى درجة، ولا يهمه سوى النفط والغاز العربي ومصالحه الخاصة فقط، والعدو مجنون وأحمق مطاع يتوقع منه فعل كل المحظورات وانتهاك كافة المحرمات، وبالتالي فإن هذه المعادلة التي تبقى معادلة صعبة ومختلة بكل المقاييس لن يحلها سوى الله الذي بقوته وحده والتوكل عليه سبحانه سوف ينصر أهل ليبيا على طاغوتهم المختل.
فنصيحة لأهلنا في ليبيا وهم أدرى الناس الآن بها: "لا ملجأ لكم ولا منجى لكم إلا الله وحده".
شريف عبد العزيز
اموقع مفكرة الإسلام.