لا قيـــــــادة مـــن غيـــــر إقـنـــــــاع
كثير من الناس يعتقدون أن الإدارة الناجحة هي التي تستخدم سلطاتها لإلزام وإكراه الأفراد على تنفذ الأوامر والقرارات، ولا شك أن هذا الأسلوب هو أسلوب العاجز الضعيف إن المدير الناجح هو الذي يسعى لتبرير جميع قراراته وأوامره، وإقناع المنفذين بأهميتها وضرورة تنفيذها؛ ذلك لأن القناعة تؤدي إلى الحماسة والإخلاص في التنفيذ، بينما عدم الاقتناع بقضية أو قرار ما يؤدي إلى مشكلات وعوائق لا حصر لها،
ولذا وجب العمل على إقناع الأفراد ضماناً لحسن العمل وجودة وإتقان التنفيذ إن الناس ليسوا آلات لا تفكر، بل هم بشر ينبغي احترام عقولهم والعمل على إقناعهم بأهمية الأمر قبل مطالبتهم بالتنفيذ، ولقد أثبتت التجارب أن الأسلوب الدكتاتوري التسلطي من أفشل الأساليب القيادية، كما أنه لا يليق بكرامة البشر وكبريائهم.
إن الأفراد يمجون القرارات والأوامر العسكرية التي فيها اسمع وأطع، ونفذ ثم ناقش، إذ إن الأسلوب الحضاري المناسب الصحيح هو ناقش ثم نفذ كم من المقررات المصيرية اتخذت ونجحت بسبب اقتناع الأفراد بها، فقدموا من أجلها التضحيات الكبيرة، ومن الأمثلة على ذلك ما روي عن «هيوستن» – أحد القادة الأمريكيين – حيث كان صاحب حجة وإقناع، وكان يقف أمام الكونجرس الأمريكي ويخطب خطباً بليغة لا يستعمل فيها كلمة مرتين، فيسحر ألباب الرجال.
وفي عام 1830م كان قد نجح لتوه في تسكين ثائرة الهنود الحمر، وجلبهم إلى توقيع اتفاقية مع الحكومة، فاستدعاه الرئيس الأمريكي آنذاك وقال له: إن تكساس تتبع المكسيك، ومستقبل أمريكا متعلق بها، ولا بد من ضمها إلى الولايات المتحدة، وأريدها منك، فقال «هيوستن»: نعم، أنا لها، زودني بمال ورجال، فقال الرئيس: لو كان عندي مال ورجال ما دعوتك، بل تذهب منفرداً وبلا دولار واحد، وأبعث معك حارساً حتى تعبر نهر المسيسبي ثم يعود. قبل «هيوستن» المهمة، وودعه الحارس على ضفة النهر، واندفع «هيوستن» نحو تكساس، فلما دخل أول مدينة بها فتح له مكتباً للمحاماة، فكان المدعي في المحكمة يخرج متهماً، والمتهم بريئاً، لبلاغته وقوة لسانه، حتى انبهر به الناس فلاذوا به، فتلاعب بمفاهيمهم وأخيلتهم وغرس فيهم معنى ضرورة الاستقلال، وأنشأ حركة قوية أتمت الاستقلال، ثم غرس معنى وجوب الانضمام إلى الولايات المتحدة، فانضمت طواعية بالقناعات التي غرسها «هيوستن».
جاء «هيوستن» بعد سنوات قليلة إلى الرئيس الأمريكي وسلمه مفتاح تكساس، إذ لم تطلق رصاصة أمريكية واحدة ولم يصرف دولاراً واحداً، فشكره الرئيس الأمريكي، وخلّد عمله بإطلاق اسمه على مدينة «هيوستن» التي هي الآن من أهم مدن أمريكا وعاصمة النفط فيها. وكذلك توجد العديد من النماذج التي ضربت مثلاً سامياً في القدرة على الإقناع، منها، أن بعض الزنادقة جاؤوا إلى الإمام أبي حنيفة (يرحمه الله)، فشككوا في وجود الله تعالى، فقال لهم الإمام أبو حنيفة: دعوني فإني مفكر في أمر أخبرت عنه، قالوا: وما هو؟ قال: أخبرت أن سفينة في البحر موقرة، تسير وتخترق الأمواج دون قائد أو حارس، فقالوا: من يقول هذا! لا يقول هذا إلا مجنون، فقال أبو حنيفة: إذا كانت السفينة لا تستطيع أن تسير دون حارس أو قائد.. فما بالكم بهذه السماوات وهذا الكون أيسير دون حارس أو قائد؟! فاقتنع الزنادقة بكلام أبي حنيفة، وقالوا: صدقت، نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
ويُروى أنه كان بالكوفة رجل مسلم يزعم أن عثمان بن عفان كان يهودياً، ولم يستطع العلماء إقناعه، فأتاه أبو حنيفة فقال له: أتيتك خاطباً، قال: لمن؟ قال: لابنتك، رجل شريف، غني بالمال، حافظ للكتاب، سخي، يقوم الليل، كثير البكاء من خوف الله تعالى، فقال: في دون هذا مقنع يا أبا حنيفة، فقال أبو حنيفة: إلا أن فيه خصلة، قال وما هي؟ قال: إنه يهودي، قال: سبحان الله أتأمرني أن أزوج ابنتي من يهودي؟! قال: ألا تفعل؟ قال: لا، قال: النبي [ قد زوج ابنته من يهودي – يشير إلى كلام الرجل عن عثمان – فقال الرجل بعد أن عرف خطأه واقتنع أن عثمان مسلم وليس يهودياً: أستغفر الله، إني تائب إلى الله عز وجل.
ورغم أهمية الإقناع، ودعوتنا إلى عدم اللجوء إلى الإكراه، إلا أنه من الحكمة أحياناً استخدام أسلوب الإكراه، فعندما تتحقق المصلحة في أمر لا يقتنع به بعض المنفذين، ويكون لدى المسئولين علم يقيني أو يغلب فيه الظن أن المصلحة في تحقيقه، هنا يمكن للمسئول وفي حدود ضيقة، أن يلزم الآخرين برأيه وإن خالف آراء المنفذين. نؤكد هنا أن الإكراه ليس هو المنهج السليم الذي يحسن أن يتخذه المسؤولون، وإنما هو آخر الدواء، إذ لا يستخدم إلا في حالات محدودة ضيقة.
بقلم الأستاذ علي الحمادي
أخوكم صاحب قضية[b]