وفاء مشهور :
إن التربية هي أداة التغيير في المجتمعات والشعوب؛ تغييرًا في قيمها، في
ثقافتها، في عقيدتها، في عاداتها، في أعرافها، بل في كل موروثاتها.. ولما كانت التربية هي الوسيلة لصناعة هذا الإصلاح، فهي تتميز بالاستمرارية باستمرار وجود الإنسان.. وهنا تظهر أهمية الأساليب المنهجية التربوية، فالعلم والتربية هما الوسيلتان لبناء سعادة الإنسان وعزته؛ لذلك بذل العلماء والمربون جهدهم، وأفنوا حياتهم في بلورتها إلى واقع تعليمي كنظم ومناهج وأساليب تعليمية، والآن وقد مضت عليه سنوات من الإهمال والنسيان بل والاندثار، وظهر ثوب جديد لنظام التعليم والمناهج الدراسية التي بعدت عن المنهج والأساليب التربوية والإسلامية عند القيام بالعملية التربوية التعليمية.
لقد سارت التربية والتعليم في التاريخ الإسلامي بموازين وأسس، اعتمدها العلماء والمربون المسلمون السابقون، وساروا عليها في مناهجهم التعليمية زمنًا طويلاً، فجاءت المدنية الحديثة، وطمست أغلب تلك المفاهيم والأسس والمبادئ، واتجهت الدول العربية والإسلامية إلى أساليب ونظم الغرب، مقتبسين من نظرياتهم ومبادئهم التعليمية التربوية، والتي أصبحت بديلاً عن مناهجنا؛
حتى صارت هذه المناهج والنظم وكأنها الأصل.
ولعلنا ندرك أثر ذلك على مجتمعاتنا وسلوكيات أبنائنا؛ حيث أصبحت المناهج الدراسية خالية من القيم والمبادئ, بل وصل الأمر إلى طمس للحس الوطني الإسلامي وتغييب للهوية وتمييع للعقيدة وطمس لتاريخ عظماء الأمة، وزرع الولاء للغرب وحضارته وعقائده المنحرفة.
وطبعًا تغيرت الأهداف التعليمية التربوية، وفي نفس الوقت اختلف أداء المعلم، وتغيَّر نظام التعليم وتعقد أمره، وصعب الحصول على الشهادة الثانوية إلى أن ظهرت الدروس الخصوصية شيئًا فشيئًا، وأصبحت هي الأصل والمدرسة على الهامش، وتحولت الدروس إلى مدارس ليلية مختلطة، واعتادت الفتاة التأخر خارج المنزل لوجودها في هذه المدرسة الليلية، وظهرت الأزمات المالية في
البيوت لارتفاع أسعار الدروس الخصوصية، ويعقبها خلافات وتشنجات في البيوت؛ فتغيرت أولويات واهتمامات الآباء والأمهات تجاه الأبناء، ونحن الآن نجني حصاد هذا التغيير، وسوف أنقل لحضراتكم واقعًا ألمسه من خلال عملي المهني وهو التوجيه التربوي، والذي يتعلق بمتابعة الأداء التربوي للمعلم في تعامله مع التلاميذ، أثناء عرض المادة وكيفية تعامله مع الموقف التربوي،
ورصد الظواهر السلوكية وطرق علاجها؛ على سبيل المثال لاحظت تغيرًا واضحًا خلال العشر سنوات الأخيرة، منذ ظهور نظام الثانوية العامة، وما يتبعه من ارتفاع درجات تنسيق الكليات؛ منها ما يتعلق بالطلاب أو الآباء والأمهات مثل:
* تركيز الآباء والأمهات على المستوى الدراسي والتفوق من أجل كليات القمة, من ناحية أخرى لا يوجد وقت عند الآباء للمتابعات التربوية والتوجيهات الدينية.
* أزمات مالية، وسعي للعمل المضاعف للحصول على المال، وبالتالي عدم وجود الوالدين في البيت بقدر كافٍ.
* التعصب في التعامل مع الأبناء، وعدم الصبر، وفقدان الحوار والنقاش معهم، وكثرة التوجيهات، والحث على التفوق العلمي فقط.
عندما كنت أمرُّ على بعض المدارس لمتابعة سير الامتحانات آخر العام، وإذا بإحدى معلمات اللغة العربية تخبرني بظاهرة خطيرة اكتشفتها وهي تصحِّح امتحان اللغة العربية للصف الخامس؛ حيث جاء سؤال: اكتب عشرة أسطر، اشرح فيها دور الآباء نحو الأبناء ودور الأبناء نحو الآباء, كانت80% من إجابات التلاميذ حول هذا المضمون: دور الآباء نحو الأبناء أن يعلموهم ويذاكروا لهم، ودور الأبناء نحو الآباء أن يتفوقوا ليسعدوهم، هذا هو ما تلقاه الطفل من البيت من توجيهات؛ فانشغال الآباء والأمهات بالعملية التعليمية أصبح أكثر مما يجب، وكان على حساب فقدان الأبناء بعض القيم والصفات، فتغيرت أولويات تربية الأبناء، وغابت سلوكيات وقيم؛ مثل تحمل المسئولية، احترام الكبير، الاهتمام بصلة الرحم، الترابط الأسري.
فكثرة مواعيد الحصص الخصوصية واستمرارها طوال العام الدراسي شغل الآباء والأمهات، وحتى غرفة استقبال الضيوف أصبحت تستقبل طوال اليوم مدرسي الأبناء؛ فمتي يتزاور الأهل والأصدقاء، ويتحاور الآباء والأبناء؟
انعزلت الأسرة اجتماعيًَّا وعائليًّا، وحين تقترب الامتحانات ترفع راية الطوارئ (ممنوع الزيارات- ممنوع فعل الخيرات- ممنوع الحوارات- ممنوع اللقاءات.....)، أي حياة هذه وكيف تتربى الفتاة التربية الشاملة المتكاملة التي تؤهلها لأن تكون زوجة وأم المستقبل، ليس لها خبرة في التعامل الاجتماعي؟ صحيح أصبح معها شهادة ودخلت إحدى كليات القمة، ولكنها لم تجد
فن التعامل مع الآخرين، ولم تتعلم إدارة شئون الحياة وحتى الخبرات المنزلية.. ومن هنا انتشرت نسبة الطلاق خاصة في الزيجات الحديثة.
من ناحية أخرى؛ فإن النظم التعليمية والمناهج لا تنشئ عالمًا مبتكرًا، بل تنشئ متحدثًا لبقًا دون عمل، وأن إرهاق التلميذ بالعلم يموِّت قلبه ويعطِّل ذكاءه وينغِّص عليه العيش.
لاحظت أثناء مروري بالفصول؛ لو سألت أسئلة مبتكرة، يجاوب عليها التلميذ الكثير الحركة قليل الاستذكار، بخلاف التلميذ الذي انكب على المذاكرة فقط.
تقول زميلة (موجهة تربية فنية): إن نسبة عالية من المتفوقات علميًّا فاقدات للحس الفني؛ لأنهن أُبعدن عن ممارسة أي نشاط لضيق الوقت؛ سواء في البيت أو المدرسة، حتى إن نظام التقويم الشامل في المرحلة الابتدائية لم ينفذ بالشكل المطلوب، وأصبح الذي يقوم به ولي الأمر؛ ما أدى ذلك إلى تكوين شخصية تعتمد على الآخر.
هذا بالإضافة إلى أن المناهج الدراسية أو المادة العلمية، ليس لها مردود على الطالب، سواء مهاريًّا أو علميًّا أو تربويًّا؛ حيث لا يوجد ربط بين التعليم والواقع، فهي دراسة نظرية وليست عملية.
والآن.. وقفة لا بد منها:
كثير من الأمهات تجدن صعوبة في تربية الأبناء لما تحمله الأساليب المعاصرة من مستجدات في التربية والتعليم؛ فوجدت الأم نفسها وسط زحام من أهداف وأساليب أفرزتها نظم التعليم وطبيعة المرحلة التي نعيشها؛ فاختلطت عليها أولويات التربية الإسلامية السليمة، وحين نسمع أو نقرأ عما يخططه أعداء الإسلام لغزو المرأة والطفل؛ يدفعنا إلى الوقوف عند أصول وثوابت تربية الطفل، وإن فلسفة التعليم الحديثة مأخوذة من تصور التربية الغربية؛ ولعل المدقق في المناهج الحديثة التي بين أيدي أبنائنا يجد معاني ومفاهيم تتنافى مع مجتمعاتنا العربية الإسلامية، هذا ومن ناحية أخرى اختفت المهارات والكفاءة التربوية لدى المعلم.
إذن كيف ومتى تتربى الفتاة التربية السليمة أثناء العملية التربوية؟
ولنعلم أن هناك فرقًا بين فلسفة التربية والتعليم الإسلامية والفلسفات الأخرى؛ لأن النظام الإسلامي الذي تستمد منه التربية والتعليم يعتمد على الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أما الفلسفات الأخرى فهي تعتمد على العقل وحده.
فهناك مسلَّمات لا بد أن تُوضع في الاعتبار، وهي:
* أن الالتزام بمنهج الله من الكتاب والسنة أثناء التربية والتعليم؛ ضرورة أساسية لتصحيح مسار الإنسان.
* وأن التربية والتعليم مسئولة عن تقديم القيم والمبادئ.
* العلوم الدينية أساس في جميع سنوات التعليم الابتدائي والثانوي والثقافة الدينية أساسية في التعليم العالي.
* انتباه الآباء والأمهات إلى النقاط الحرجة التي سبَّبتها نظم التعليم وطرق العلاج.
============================
والآن.. أيها الأحبة آباء وأمهات معلمين ومعلمات.. كيف نربِّي جيلاً مسلمًا واعيًا؟
فإلى لقاء قادم نقدِّم فيه رسالةً للآباء والأمهات، ورسالةً للمعلمين والمعلمات، ورسالةً لأبنائنا الطلبة والطالبات[/b][/center]