د.محمد موسى الشريف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد..
فمن المعلوم أن:
- التاريخ هو تراث الأمة وكنزها.
- وهو مقياس عظمتها في بابي الحضارة والثقافة.
- وهو ديوانها الذي تحتفظ فيه بذاكرتها.
- وهو مغترف العبر والعظات لأحداثها.
- وهو بيانٌ لسيرة عظمائها.
- وهو ماضيها الذي تستند إليه لحاضر أفضل ومستقبل أجلّ.
- وهو دراسة أحوال الماضين من الأمم والشعوب الأخرى.
- وهو وعاء الخبرة البشرية.
وهذه وريقات في كيفية قراءة الشباب للتاريخ، موجزًا ما استطعت إلى الإيجاز سبيلاً، وسأقتصر على تاريخ الأمة الإسلامية، أما تاريخ الأمم الأخرى فله حديث آخر؛ إذ له قواعد ومصادر ومراجع تقترب حينًا وتبتعد أخرى من تاريخ الأمة الإسلامية، والله أعلم.
كيفية قراءة التاريخ
كيف يقرأ التاريخ ؟هناك كيفيات عديدة للقراءة، لكن قبل ذكرها وبيانها ينبغي التذكير بأن القراءة لا بد أن تكون بنية الاستفادة والتغيير؛ فهذا من أهم ما يُقرأ التاريخ من أجله؛ إذِ الأمة الإسلامية اليوم تتطلع إلى الخروج من النفق المظلم الذي وضعت نفسها فيه منذ قرابة 3 قرون، ولا مخرج لها -بعد التوكل على الله سبحانه- سوى المراجعة الدقيقة لتاريخها، واستخراج ما فيه من عبر وعظات صالحة لدفع عملية التغيير قدمًا إلى الأمام.
وتاريخ الإسلام مليء بالفوائد الجليلة من عبر وعظات وردت في ثنايا أحداثه وفي سير الشخصيات العظيمة، فإذا قرأ المرء في كتب التاريخ فلتكن نيته الاستفادة من هذه الكنوز وتقويم حياته بها؛ فمن قرأ تاريخ بني أمية وما فيه من مزايا ونقائص، وما فيه من كرٍّ وفر، ومد وجزر قراءة واعية مركزة، فسيستخرج عبرًا وعظات تفيده في تقويم مسيرته، وكذلك سائر الدول من عباسية ومملوكية وعثمانية... إلخ.
ومن قرأ جهاد الدولة الزنكية والأيوبية للصليبيين، فكأنما يطالع أخبار زماننا هذا.
ومن قرأ تفاصيل أعمال بني عثمان في البلقان وسائر دول أوربا الشرقية، فسيجد فيها من الأحداث المشابهة بأحداث زماننا قدرًا وافرًا.
وهكذا لو قرأ قارئ سير الرجال العظماء الذين امتلأت بأعمالهم بطون الكتب فسيتأثر بها كثيرًا، فهم ما بين عابد وزاهد وفارس وعالم وغني شاكر، وفقير صابر، في جملة من الأعمال المسطورة والأقوال ال
ة التي يهذب بها قارئ التاريخ نفسه، ويزكي بها عمله، ويحسِّن بها منطقه.
لذلك فإن القراءة في تلك الكتب تعود على الفرد والمجتمع بأحسن العوائد وأجمل الآثار، فمن قرأ التاريخ هذه القراءة استفاد تلك الاستفادة.
وأوجز كيفيات قراءة التاريخ في التالي:
1- القراءة الشاملة:
إن النظرة الجزئية لأحداث التاريخ تنتج مواقف إزاء تلك الأحداث لا تتفق مع الواقع تمامًا، وتكون ظالمة لأشخاص ووقائع؛ فمن نظر إلى الدولة العباسية من منظور قسوة النشأة وتتبع الخصوم، سيحكم عليها حكمًا جائرًا.
ومن نظر إلى دولة بني عثمان في ضوء الوقائع العسكرية فقط، فسيحكم عليها حكمًا غير دقيق، وهي أنها دولة أفلحت في الجوانب العسكرية فقط، وأخفقت في سائر الجوانب الأخرى.
ومن نظر إلى دول آل البيت في ضوء منجزاتها دون النظر إلى عقيدة القائمين عليها (زيدية أو إمامية أو إسماعيلية باطنية)، فسيخطئ في الحكم عليها، وسيرى أنها دول لها فضل وأثر في بابي الحضارة والثقافة، وسيعمى عن خطورة تلك الدول في جوانب أخرى... وهكذا.
2- عدم تجميل التاريخ:
يحب كثير من قارئي التاريخ والباحثين فيه أن يجملوا التاريخ الإسلامي، وهذا لا يصح؛ إذ التاريخ فيه ما يجمل ذكره وفيه ما يسوء ذكره، وهذه سنة الله في خلقه، وهكذا هو التاريخ منذ فجر البشرية. وهناك مؤرخون يجملون التاريخ بذكر الحسنات فقط وإغفال السيئات، وصنيعهم هذا خطأ منهجي واضح، ومما يفعلونه:
أ- عدم ذكر ما يسوء من الوقائع وسير الأشخاص، وإغفال كل ذلك تمامًا.
ب- ذكر ما يسوء مختصرًا بدون توسع وانتزاع للعبر والعظات؛ مما يجعل القارئ في حيرة من أمره ولا يغنيه ما يقرؤه ولا يقضي حاجته للمعرفة.
جـ- ذكر ما يسوء مع انتحال الأعذار الكثيرة التي تذهب بأهمية الحدث، وتجرِّئ الباحثين على مزيد من الاعتذارات السمجة.
هذا وقد كان في الأقدمين هذا الصنيع -أي تجميل التاريخ- وقد رأيته في كتاب الإمام أبي بكر بن العربي "العواصم من القواصم"، خاصة عندما تكلم على تاريخ بني أمية.
أما المحدثون فبعضهم كتب كتابة عجيبة لا تقبل بحال؛ فمن ذلك الكتاب الذي صنفه أحدهم بعنوان "الحجاج بن يوسف المفترى عليه"، وهذا دفاع أعمى عن رجل ظالم ولغ في الدماء ولوغًا بلغ مبلغ التواتر، وكان جبارًا عسوفًا، يأخذ الناس بأدنى شيء وأقله، بل في بعض الأحيان بدون سبب، فمثل هذا دفاع يبغضه الله ويبغضه المؤمنون.
وهناك مَن بالغ في الدفاع عن بني أمية في بعض سقطاتهم وتجاوزاتهم، نعم إن في بني أمية مزايا ونقائص، فدفع النقائص عنهم عمل باطل، كما أن غمطهم حسناتهم فعل محرم في شرعنا.
3- عدم تقبيح التاريخ:
هناك اتجاه عند بعض الكتاب بأن التاريخ الإسلامي كله شر وفتن، ولم يسلم منه إلا مدة محدودة زمن الصديق والفاروق -رضي الله عنهما- أما ما عدا ذلك فليس فيه إلا الفتن والمشكلات، وهذا غلو واضح وتزوير فاضح؛ إذ التاريخ الإسلامي هو تاريخ بشري فيه الخير والشر، وفيه مُدد الهدوء وحوادث الفتن، بل هناك مدد مضيئة في التاريخ الإسلامي أزعم أنها هي الأطول والأكثر امتدادًا في التاريخ.
وللأسف إن حامل لواء هذه الفرية -غالبًا- هم المتحررون (الليبراليون) واللادينيون (العلمانيون) لحاجة في نفس يعقوب، وهي أنه إذا لم يستطع الصدر الأول أن يعيشوا في أمن واطمئنان وهدوء تحت راية الشريعة، فلن يستطيع ذلك مَن يجيء من بعدهم، ومرادهم أن يثبتوا هذا، وأمرًا آخر هو أن الشريعة نفسها لا يمكن تطبيقها، وإن طُبِّقت فلن تجلب الرخاء والأمن.
ولا بد عند ذكر تاريخنا من ذكر تواريخ الأمم الأخرى مقارنًا بتاريخنا؛ لنعرف أن تاريخنا أفضل من تواريخ جميع الأمم بل ليس بينه وبينها أفعل تفضيل.
4- القراءة المركزة أولاً:
يهاب أكثر قراء التاريخ من دخول المبسوطات الضخمة "الموسوعات" التي ألفت فيه كـ "البداية والنهاية" للحافظ ابن كثير، "والكامل" لابن الأثير، و"تاريخ الرسل والأمم والملوك" لابن جرير الطبري -رحمهم الله تعالى- وذلك لأمرين:
أ- ضخامة المادة وطولها؛ مما يصيب القارئ بالملل.
ب- كثرة الاستطرادات التي تخرج بالقارئ عن النسق العام للموضوع، بحيث ينتهي إلى تشتت وخلط؛ فإن من عادة المؤرخين القدامى أن يخللوا سرد الحدث قصائد شعرية أو تراجم أو حدثًا تاريخيًّا آخر، وقد يعجز غير الخبير بمناهج تلك الكتب أن يتابع موضوعه الذي يريده.
ولعلاج هذا الأمر فيحسن بالقارئ أن يقرأ كتابًا على الطريقة العلمية الحديثة التي تلم بالموضوع بإيجاز نسبي وترتيب منهجي دون استطراد أو تطويل، وذلك نحو كتاب "التاريخ الإسلامي" لمحمود شاكر.
5- فهم الفرق بين مناهج المؤرخين القدامى والمحدثين:
هناك فروق مهمة في طرائق كتابة التاريخ بين المؤرخين القدامى والمحدثين؛ ولا بد من فهم هذه الفروق للاستفادة المثلى من قراءة التاريخ، ومن أهم هذه الفروق هي:
أ- الأسلوب:
المؤرخون القدامى يكتبون المادة التاريخية ويخلطونها بعاطفتهم وآهاتهم الحزينة أو عبارات الإعجاب والإشادة، وهذا منتشر جدًّا في كتاباتهم، بينما المؤرخون المُحْدثون لا يكتبون بهذه الطريقة حرصًا منهم على اتباع المنهج العلمي الخالي من العواطف المصاحبة للمادة المسرودة. لكن -في ظني- أن أي مؤرخ في الدنيا لا يمكن له أن يتخلى عن عاطفته تمامًا وهو يكتب، وهذا الذي يطلق عليه أحيانًا فلسفة المؤرخ للتاريخ، فهذه لا سلطان لأحد عليها، فهي نابعة من عقيدة المؤرخ وبيئته وأحوال أمته؛ فمهما ادعى مؤرخ عدم التحيز لهذه الثلاثة فهو يخادع نفسه، لكن يمكن أن يقال على وجه الإجمال: إن أسلوب المُحْدثين فيه جفاف ويُبس، وأسلوب القدامى فيه عاطفة ولين وجمال. وليتضح هذا إليكم هذا النص الذي قدّم به المؤرخ ابن الأثير في كتابه "الكامل" لأحداث غزو التتار للعالم الإسلامي في القرن السابع الهجري:
"لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلاً وأؤخر أخرى؛ فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟! ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟! فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًّا.
إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترْك ذلك لا يجدي نفعًا، فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله I آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقًا؛ فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها، ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بختنصر ببني إسرائيل من القتل وتخريب البيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس! وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى مَن قتلوا!! فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل.
ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجال فإنه يُبقي على من اتبعه ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها وعم ضررها وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح؛ فإن قومًا خرجوا من أطراف الصين فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاساغون، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند وبخارى وغيرهما فيملكونها ويفعلون بأهلها ما نذكره، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكًا وتخريبًا وقتلاً ونهبًا، ثم يتجاوزونها إلى الري وهَمَذان وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق، ثم بلاد أذربيجان وأرانية ويخربونها ويقتلون أكثر أهلها، ولم ينج إلا الشريد النادر في أقلّ من سنة، هذا ما لم يُسمع بمثله.
ثم لما فرغوا من أذربيجان وأرانية ساروا إلى دربندشروان فملكوا مدنه، ولم يسلم غير القلعة التي بها ملكهم وعبروا عندها إلى بلد اللان واللكز ومن في ذلك الصُقْع من الأمم المختلفة، فأوسعوهم قتلاً ونهبًا وتخريبًا، ثم قصدوا بلاد قفجاق وهم من أكثر الترك عددًا فقتلوا كل من وقف لهم، فهرب الباقون إلى الغِياض ورءوس الجبال وفارقوا بلادهم واستولى هؤلاء التتر عليها.
فعلوا هذا في أسرع زمان، لم يلبثوا إلا بمقدار مسيرهم لا غير.
ومضى طائفة أخرى غير هذه الطائفة إلى غزنة وأعمالها وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان، ففعلوا فيها مثل فعل هؤلاء وأشد.
هذا ما لم يطرق الأسماع مثله؛ فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة إنما ملكها في نحو عشر سنين، ولم يقتل أحدًا إنما رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه وأكثره عمارة وأهلاً وأعدل أهل الأرض أخلاقًا وسيرة في نحو سنة، ولم يبت أحد من البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يتوقعهم ويترقب وصولهم إليه.
ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم، فإنهم معهم الأغنام والبقر والخيل وغير ذلك من الدواب يأكلون لحومها لا غير، وأما دوابهم التي يركبونها فإنها تحفر الأرض بحوافرها وتأكل عروق النبات لا تعرف الشعير، فهم إذا نزلوا منزلاً لا يحتاجون إلى شيء من خارج.
وأما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها، ولا يحرمون شيئًا فإنهم يأكلون جميع الدواب حتى الكلاب والخنازير وغيرها، ولا يعرفون نكاحًا بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال، فإذا جاء الولد لا يعرف أباه.
ولقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يُبْتَلَ بها أحد من الأمم منها هؤلاء التتر -قبحهم الله- أقبلوا من المشرق ففعلوا الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها، وستراها مشروحة متصلة إن شاء الله تعالى، ومنها خروج الفرنج -لعنهم الله- من المغرب إلى الشام وقصدهم ديار مصر وملكهم ثغر دمياط منها، وأشرفت ديار مصر والشام غيرها على أن يملكوها لولا لطف الله تعالى".
انتهى هذا النقل الجامع بين العاطفة الجليلة وسرد الحادثة بإيجاز، فهو مثير لأشجان القارئ مع حصول الفائدة المتوخاة.
وهذا المنهج في الكتابة -الجامع بين العاطفة الجليلة وتوخي الصدق والعدل- لا يُملّ القارئ مهما طالت به القراءة، بل إنه يترك في نفس القارئ مشاعر قوية تهزه وتدفعه إلى التغيير من سلوكه وطرائق تعامله مع المجتمع، بل ربما تدفع به إلى المشاركة في مجتمعه مشاركة نافعة.
ب- السرد:
المؤرخون القدامى إذا سردوا المادة التاريخية المراد الحديث عنها فإنهم غالبًا ما يخلطونها بغيرها، وذلك نحو التراجم؛ وهي سير حياة الأشخاص -وهذا كثير في كتبهم- والأبيات الشعرية الكثيرة، والاستطرادات التي يخرجون بها عن موضوعهم الذي يسردونه إلى موضوع آخر ثم يعودون من قريب أو بعيد إلى موضوعهم الذي بدءوا به، وهذا مرهق لقُرّاء التاريخ في عصرنا.
بينما يُحمد للمُحْدثين أنهم -لمراعاتهم المنهج العلمي الحديث- لا يقعون في هذا الخلط والتشتيت، وتجد كتبهم التاريخية حسنة السرد وقوية التركيز على ما يريدون إيراده.
جـ- النقد:
إن النقد لما يورده المؤرخ أمر في غاية الأهمية؛ لأنه بالنقد يطمئن قارئ التاريخ لصحة المادة التي يقرؤها وترتاح نفسه لمتابعة الاطلاع، وعكس هذا صحيح؛ إذ القارئ للكتاب الخالي من النقد والذي تكثر فيه الروايات الضعيفة أو الأساطير الموضوعة، سيعزف عنه وتمله نفسه.
هذا وإن أكثر المؤرخين المحدثين يراعون مسألة النقد هذه، ولا يوردون الأساطير والمرويات شديدة الضعف، التي تورط فيها بعض ضعاف قدامى المؤرخين، لكنهم قد يبالغون فيستبعدون الوقائع الممكنة، ويردون الأحداث التي يرون أنها لا توافق ما يعتقدونه ويذهبون إليه.
أما المؤرخون القدامى فكثير منهم لا ينقد الأخبار التي يوردها، ويعوض ذلك ما يُعرف بالتحقيق العلمي الجيد الحديث للكتب الذي يُنتظر منه نقد الأخبار والآثار نقدًا يعوض تقصير المؤرخ في نقدها.
هذا وإن أعظم المؤرخين القدامى نقدًا -في ظني- هو الإمام الذهبي الذي تتوافر المادة النقدية في كتبه التاريخية خاصة كتاب "سير أعلام النبلاء"، ثم يأتي بعده الإمام ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية".
وليس النقد فقط هو المراد، إنما المراد هو النقد القائم على أسس شرعية صحيحة، وهذا لا يقوى عليه إلا مؤرخ له حظ وافر من العلوم الشرعية.
وقد كان أكثر المؤرخين القدامى علماء شرعيين؛ فلذلك كانت كتاباتهم موثقة ومعتدلة إلى حد كبير، فالإمام الطبري صاحب "تاريخ الأمم والرسل والملوك" كان إمامًا مجتهدًا عارفًا بالفقه والحديث والتفسير واللغة بل كان إمامًا في كل ذلك، والإمام الذهبي صاحب الكتب التاريخية الكثيرة، والإمام ابن كثير صاحب "البداية والنهاية" كانا متضلعين من علوم الشريعة واللغة، وابن خَلِّكان صاحب "وفيات الأعيان" كان قاضيًا، والصفدي صاحب "الوافي بالوفيات" كان عالمًا بالشرع واللغة، وكذلك الإمام ابن حجر العسقلاني وكان قد صنف عدة كتب تاريخية، والإمام السخاوي كذلك، والإمام السيوطي لا يخفى كم ألّف من كتب تاريخية كثيرة، والإمام يعقوب بن سفيان الفَسَويّ صاحب "المعرفة والتاريخ"... وهكذا.
أما المؤرخون المحدثون فلا أعلم أن أحدًا منهم عالم شرعي معتبر معروف، وبعضهم كان عالمًا باللغة والأدب مثل الأستاذ محمود محمد شاكر المصري.
ولذلك كان لزامًا على من يريد التصدي لنقد الحوادث التاريخية أن يحوز قدرًا جيدًا من الثقافة الشرعية، يستطيع به أن يميز الصالح من الطالح، ويحسن به الانتقاء والاختيار.
والحد الأدنى أن يكون عارفًا لطرائق تمييز الأخبار الصحيحة من السقيمة بموازين أهل الحديث، وأن يكون عارفًا للحلال والحرام على وجه الإجمال وليس التفصيل.
6- البعد عن المزالق التاريخية:
في التاريخ العديد من المزالق التي ينبغي عدم التركيز عليها، وتُستثنى من الفقرة الثانية المذكورة آنفًا، وعلى رأس ذلك الفتن التي وقعت بين الصحابة y جميعًا، فقد كان السلف يتجنبون الخوض فيها ويقولون هي فتنة جَنّب الله أيدينا منها فنكفّ ألسنتنا عنها، وكانوا يوصون في الكتب التي يكتبونها لبيان العقيدة الصحيحة بقولهم فيها: "ونكف ألسنتنا عما شجر بين أصحاب رسول الله "؛ فأخبار الفتن هذه ينبغي الإعراض عنها تمامًا.
وكذلك يكف طالب التاريخ عما وقع من بعض أصحاب رسول الله من أمور مرجوحة فيعرض عنها، ولا يتوسع في عرضها أو ذكرها؛ فالصحابة كلهم عدول y، لكن لا تعني العدالة عدم الوقوع في الخطأ، وأخطاؤهم قليلة مغمورة في بحر حسناتهم y، والأجمل بطالب العلم أن يبتعد تمامًا عن هذا الموضوع المثير لحساسيات هو في غنى عنها.
وكذلك يكف عن ذكر بعض ما ورد في ثنايا كتب التاريخ من مفاسد خلقية وسلوكية مثل الزنا واللواط وشرب الخمر، ومثل هذا يكثر في كتب معينة مثل "الوافي بالوفيات" للصفدي، ومثل "يتيمة الدهر" للثعالبي، ومثل "خلاصة الأثر في أهل القرن الحادي عشر" للمُحِبِّي، إلى آخر هذه الكتب التي تورط مؤلفوها في إيراد مثل هذا الذي يفسد الأخلاق ويضر بالقيم.
7- الاطلاع على كتب التاريخ الحديث:
وهذا هو البحر المتلاطم الخِضَمّ، والمنهل الأكبر الأعظم، وهو الذي ينبغي أن يتريث المرء طويلاً قبل الخوض فيه والوقوف على دقائقه وتفصيلاته؛ وذلك لتشعبه وكثرة أحداثه كثرة هائلة.
ويمكن اعتبار الخط الزمني الفاصل بين التاريخ الحديث والتاريخ الوسيط هو الحملة الفرنسية على مصر سنة 1211هـ/ آخر القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر الميلادي: 1799-1801م، فمنذ ذلك التاريخ مر على العالم الإسلامي أحداث ضخمة وكثيرة جدًّا؛ ففي القرنين الفائتين وقع الاحتلال لأكثر بلاد الإسلام فيما يعرف خطأ بـ"الاستعمار" وهو استخراب وليس استعمارًا، وكذلك سقطت الخلافة، وتكونت كل الجماعات الإسلامية، ونشأت المذاهب العقدية الضارة الجاهلية مثل الشيوعية والقومية واليسارية والاشتراكية والوجودية والبعثية وغيرها..
ونشأت الدول الإسلامية بحدودها المعروفة اليوم حتى بلغت قرابة الستين، وحُكِم في أكثرها بغير ما أنزل الله في سابقة تاريخية ليس لها نظير في ديار الإسلام، وبرز رجال عظماء ذادوا عن حمى الدين، وفي الوقت نفسه برز رجال كان لهم أسوأ الأثر على الإسلام، وقامت حربان عالميتان هلك فيهما أكثر من خمسين مليونًا... إلخ.
ولا بد أن يعرف المريد للتخصص في التاريخ الحقائق التالية حول العصر الحديث:
1- ليس هناك كتاب تاريخ واحد جامع اشتمل على التاريخ الحديث كله، بل إن أكثر أحداث التاريخ الحديث مفرقة في عدة كتب.
2- هناك أحداث تاريخية كثيرة لم تدون إلى الآن.
3- هناك أحداث تاريخية كثيرة دُوِّنت خطأ: جهلاً أو نفاقًا ومداهنة، أو مداراة.
4- هناك أحداث تفرد بكتابتها المستشرقون -تقريبًا- أو أنهم أتلفوا كل كتابة سوى كتاباتهم؛ ومن أقرب الأمثلة على ذلك التاريخ المفصل لإندونيسيا؛ فقد احتلها الهولنديون ثلاثة قرون تقريبًا فطمسوا التاريخ، ونفوا أبطالهم ورموزهم إلى جنوب إفريقيا، وقتلوا آخرين، فلم يبق من التاريخ الطويل لتلك البلاد سوى ما كتبه هؤلاء المستشرقون -وهم غير مؤتمنين في الجملة- ونِتَف قليلة كتبها أهل البلاد بلغتهم الأصلية وبحروفها الغريبة التي لم تَعُد يكتب بها اليوم، لا تروي ظمأ المتعطشين لمعرفة تواريخ تلك البلدان على التفصيل.
وقِسْ على ذلك ما كتبه الفرنسيون عن بلدان إفريقيا السوداء، وما كتبه الروس عن القوقاز وتركستان الغربية، وما كتبه الصينيون عن تركستان الشرقية... إلخ.
لذلك كله كان استيعاب أحداث العصر الحديث أمرًا أقرب إلى العُسْر منه إلى اليسر، وفي بعض المواضيع يقترب من كونه مستحيلاً، لكن هناك بعض الكتابات المقربة للتاريخ الحديث من أهمها:
أ- كتابات الأستاذ محمود شاكر ياسين عن دول الإسلام الحديثة، وهي سلسلة موجزة جيدة، وله كتاب مهم في باب آخر من أبواب التاريخ الحديث يوجز فيه كثيرًا من الأحداث والوقائع وهو "الثقافة التاريخية".
ب- كتاب "حاضر العالم الإسلامي" تأليف لوثروب ستودارد، مع الحواشي النافعة جدًّا للأمير شكيب أرسلان رحمه الله.
د- كتابات الأستاذ أحمد شلبي عن التاريخ الحديث، وهي قليلة لكنها نافعة.
هـ- كتب الأستاذ أنور الجندي وفيها كثرة وتنوع، وليُقرأ كتاب "معالم تاريخ الإسلام المعاصر" على وجه الخصوص.
و- كتاب الأستاذ يوسف القرضاوي: "الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا".
ز- بعض كتابات الأستاذ عماد الدين خليل، وتمتاز بالتحليل العميق واختيار الكليات.
و- بعض كتب الأستاذ علي الصلابي، خاصة كتابه عن السنوسية.
8- إحسان التعامل مع تاريخ آخر الزمان:
وهذه قضية مهمة جدًّا؛ قد زلّت بها أقدام، وضلّت فيها أفهام، وقصرت فيها ألسنة وطالت أخرى!! وذلك نحو ظهور المهدي وخروج الدجال ونزول عيسى بن مريم -عليهما الصلاة والسلام- وغير ذلك من أحداث وعلامات آخر الزمان واقتراب الساعة، وإنما قلتُ هذا لما تركته هذه الأحداث في نفوس كثيرين من آثار مدمرة أوجزها في التالي:
(1) الاتكال على هذه الأخبار وترك العمل:
التعلق بهذه الأخبار ونحوها تعلقًا يفضي إلى ترك العمل والجد والاجتهاد، بدعوى ترك ذلك للمهدي إذا ظهر!! وهذا مخالف لنهج النبي : "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها" (أخرجه مسلم).
(2) إهمالها بالكلية:
وهذا خطأ ومنافٍ لمنهج النبي الذي حذر مرارًا من الدجّال، وأمر الأمة بالتحذير منه، وقد قصّ علينا جملة من أخبار آخر الزمان بل قد جاء جملة منها في القرآن العظيم؛ فالإعراض عنها جهل وجفاء وسوء قراءة للوحي.
(3) إساءة تفسيرها:
فكم من جماعات ضلت بسبب التعلق بظهور المهدي، وكان هذا منذ القرن الأول؛ فقد كان محمد بن الحنفية (ابن علي بن أبي طالب) يُنادى عليه من قبل بعض الناس بأنه المهدي، وظهر ما لا يمكن حصرهم ممن ادعوا المهدية إلى زماننا هذا الذي حدثت فيه مأساة الحرم المكي المعروفة؛ بسبب التعلق الموهوم بالمهدي.
وكم من جماعات في زماننا هذا تتبعت أحداث آخر الزمان تتبعًا خاطئًا في التوراة والإنجيل المحرفين!! وفي كتب الرهبان الكفرة! وفي بعض أخبار بني إسرائيل الواردة في الكتب المشتهرة بإيراد المكذوبات والموضوعات والأخبار الساقطة وشديدة الضعف. ومسألة آخر الزمان من الغيب الذي لا يؤخذ إلا من القرآن والسنة الصحيحة، وقد جمعني ببعضهم مجلس تحسرت فيها على ما وصل إليه تفكير هؤلاء من عقم وضعف.
وقد قرأت كتبًا صُنفت في هذا الباب عجبت من تهافت منطقها وضعف حجتها وسوء إيرادها، وقد وقع مصنفو هذه الكتب في خطأ فادح يوم حددوا وقوع الساعة أو ظهور المهدي أو خروج الدجال بالسنة بل بالشهر، وهذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
والمطلوب أن يقرأ المرء تاريخ آخر الزمان بنية الاستفادة واستنباط العبر والعظات، وبنية الاستعداد ليوم المعاد، لا أن يقتحم الغيب المجهول بتخرُّصات وظنون وأوهام لا تستند إلى حقائق. والله الموفق.
المصدر: موقع التاريخ.