نحو منهجية تربوية قلبية مؤثرة
كتب: خالد روشه
لست بحاجه في بداية مقالي أن أتحدث عن مدى حاجتنا في أيامنا هذه إلى اللجوء للإيمان لنحتمي به من ذلك الطوفان الكاسح من طغيان المادة الذي يدعونا دوما للالتهاء بحاجاتنا , ونسيان رعاية قلوبنا وتركها في مهب الريح ..
ذلك شيء متفق عليه بين الجميع , لكننا عادة ما نتحدث عن حاجتنا لرعاية قلوبنا حديثا نظريا فقط , وفي أحسن الأحوال وعندما يتحدث المربون والدعاة حول القلوب يكتفون بحديث الوعظ أو الخطابة ..والحقيقة أنه لم تعد المقالات ولا الخطب ولا المواعظ كافية لمواجهة ما نعيشه ..
إننا لابد لنا من وصف منهج تطبيقي يحتوي على جوانب عملية وبيئية ونفسية وقلبية , نستطيع به أن نحافظ على دين المتدين, ونعين السائرين في الطريق إلى الله في سيرهم, ونخلص لهم الموعظة, ونبين لهم الخطوات, ونضع لهم البرامج, حتى يستطيعوا أن يواجهوا طبيعة هذا العصر.
لقد حاولت سابقا أن أكتب في ملامح هذا البرنامج المنهجي (1) , وتصورت أنه منهج للتربية الإيمانية, يتربى من خلاله المسلم فيتقوى قلبه ويتطهر, وتزكو نفسه, وتسمو روحه, فيصلب في الشدائد ويواجه الأزمات مواجهة المؤمن القوي, صحيح العقيدة، سليم القلب، القريب من الله, الحريص على الآخرة, الزاهد في الدنيا.
ولقد تكاثرت الكتابات التربوية في مجال الرقائق, ومجالات الترغيب والترهيب ومجالات التزكية, على أنها - على فضلها وأهميتها - لم تكن كافية في توجيه المسلم إلى ما ينبغي عليه عمله حتى يربي نفسه إيمانيًا, ويطهر قلبه من أمراضه و يقربه من الخشوع و التوبة والإنابة, أو تعلمه الخطوات المتدرجة للوصول إلى التقوى أو الإحسان أو مثل ذلك من المعاني الإيمانية العالية, بل كانت قاصرة على أن تأمره بها أمرًا, فتطلب منه التقوى أو الإيمان أو الإحسان طلبًا , أو تحدثه عن فضائلها ثم تعظه بها وبالعمل بها وعظا ..وكيف لأحدنا أن ينتفع بما لا يعلم الطريق الموصلة إليه ؟! وكيف للمربين أن يعلموا الناس شيئا قد افتقدوه هم أنفسهم ؟
فكم سمعنا واعظا يأمر الناس بالإيمان والتوبة, وبالخوف والرجاء, وبالخشوع في الصلاة, ولكننا قلما نسمع مربيًا يقوم فيعلم الناس طريقة الوصول للتوبة, أو خطوات الوصول إلى الخشوع أو الإنابة .
لقد صارت تلك المعاني العظيمة , والأدوية الشافية , والعبادات الكريمة , بالنسبة لكثير من الناس مجرد معاني يستمعون إليها فتطرب آذانهم , لكنهم يتحسرون على عدم قدرتهم الوصول إليها وتطبيقها والاتصاف بها ..
لقد أثر غياب المنهج التربوي الإيماني تأثيرًا ظاهرًا على العمل التربوي الإسلامي, مما دفع البعض إلى تبني المناهج الصوفية, وطريقة التصوف في تربية أبنائها.
ولما نظر هؤلاء إلى مناهج التصوف ووجدوها قد حادت - في كثير من الأحيان - عن سبيل السلف الصالح في تزكية نفوسهم, حاولوا أن يُدخلوا تعديلات وتغييرات على المنهج الصوفي, رجاء أن يقترب من المقبول , ولكن للأسف الشديد فقد كانت المناهج الصوفية قد وصلت إلى طريق لا يمكن التعديل فيه ولا التغيير.
ولقد رأيت الكثير من محاولات الدعاة والمفكرين لتحسين صورة التصوف ونبذ أوهامهم وطرد كثير من أخطائهم المنهجية والوقوف معهم على أصول علمية يبنى عليها منهجهم في التزكية النفسية, إلا أنهم - مع كبير مجهودهم - لم يستطيعوا أن ينالوا مرادهم, بل لقد وقعوا في محظورات منهجهم في أحيان كثيرة, وشاركوهم في إثبات بعض المحدثات والمبتدعات التي تخالف منهج أهل السنة والجماعة. وكذلك فقد تبعهم كثير من الباحثين؛ فأصدروا كتبًا تحاول تنقية التصوف من دخنه, ومن ذلك: ما كتبه أحد الباحثين الدعاة – محاولاً تنقية المنهج الصوفي- فقال:
"وسأجتهد في هذه الدراسة: أن أرد التصوف إلى جذوره الإسلامية, مستمدين من محكمات القرآن الكريم وصحيح السنة المطهرة, وأن أنقي التصوف الحق مما علق به من شوائب كدرت صفاءه وشابت جوهره, مما تأثر به من مصادر أجنبية غريبة عن طبيعة الإسلام ووسطيته, ومما دخل عليه من أوهام البشر وأهوائهم وتجاوزاتهم المائلة إلى الغلو حينًا, وإلى التقصير حينًا آخر".
وكلام هذا الباحث كلام حسن من جهة كونه ينقي المناهج المنحرفة من الكدرات والشوائب والأوهام والأهواء والتجاوزات - على حد قوله - , إلا أن هناك سؤالاً لابد منه, أرجو أن يتدبره كل الباحثين الذين ينهجون نفس النهج من اعتبار الصوفية هي منهج التربية الإيمانية, هذا السؤال هو:
إذا كانت هذه المحاولات - كما قال أصحابها - هي محاولات للرجوع إلى الكتاب والسنة ونبذ المخالفات وتطهير الشوائب, فلماذا لم يبحث أولئك الباحثون الكرام عن المنهج الإسلامي الصافي الصحيح الثابت, بدلاً من تنقيتهم لمناهج إذا أزيل منها كل الكدر والوهم والتجاوز لن يبقى منها شيء يذكر إلا بعض النصائح والمواعظ والمعاني التي يمتلئ بها المنهج الصافي من السنة الصحيحة؟!
ولماذا إذن التمسك بمُسمى التصوف وقد صار لا يدل إلا على المنهج المتكدر؟
وعلى الجانب الآخر فقد ابتعد آخرون عن كثير من المعاني القلبية التي وجه إليها القرآن أو نبهت إليها السنة أو أشار إليها السلف الصالحون, ولم يكن من سبب لابتعادهم عنها أكبر من أنهم خافو التشبه بالصوفية في طريقتهم ..
فأعرضوا عن كثير من المعاني القلبية والروحية الصحيحة الثابتة خوفا من الوقوع في التصوف أو من التشبه به بعد أن تبين لهم خطؤه جليًا.
فصار بعض المعلمين يحذرون من ذلك أثناء الحديث في الرقائق والمواضيع القلبية والروحية حذرًا تقلص معه الحديث فيها, بل تقلص معه ذكرها بينهم.
ولما كانت الموضوعات الإيمانية من الأهمية بمكان لدرجة أنها لا يمكن أن تهمل, فصار الأخذ منها يغلف بطريقة جافة في الشرح والتبيين حذرًا من الوقوع في طريقة التصوف أيضًا في الشرح والتبيين , بل صار الأمر أكثر من هذا, فلقد هُجرت كُتب بكاملها لاستشهاد أصحابها بشيء من كلام التصوف أو بنقلهم لبعض آراء المتصوفة ولقد سبق ونقلنا كثيرا من أقوال العلماء في المنهج الصحيح للتعامل مع ذلك أنه : لو كان الكتاب به من الخير والنفع ما غلب عليه وكان به بعض عبارات التصوف غير المقبولة أن ينتفع بالكتاب وينبه على تلك العبارات الخاطئة ويجتنبها المتعلم ويتعلم المنهج الصحيح فيها.
وأحسب أنه لولا أن أنعم الله علينا بكلام أئمة أمثال ابن القيم وابن الجوزي وابن رجب وأمثالهم حول التزكية والرقائق, لصار الأمر زيادة في البعد عن الرقائق والتزكية.
إن علينا الرجوع والعودة إلى منهج الإسلام في التوجيه القلبي والنفسي, والتشريع مليء بذلك, وعلينا أن نتجنب ميراث البدع والمخالفات والأوهام, وعلينا أن نراجع الصحيح الثابت من التوجيهات القرآنية والنبوية وكلام علماء السلف الصالحين في التربية القلبية والروحية.
إننا في طريقنا إلى الله سبحانه, مأمورون بعبادته وإخلاص العبادة له عز وجل, وتخليصها من شوائب الشرك وخبائث البدع. والمسلم في طريق سيره إلى ربه سبحانه, يحتاج أن يحب العبادة ليصبر عليها, ويثبت , ويحتاج أن يشعر بلذتها ليتوق إليها ويتشوق إليها, ولقد كان عمله e كما وصفت عائشة رضي الله عنها في الصحيح: "ديمة" يعني دائمًا ثابتًا, وهذا الثبات لا يمكن تحقيقه إلا بحب الطاعة والشعور بمعنى العبادة وأثرها.
وقد غفل عن هذا كثير من المربين, فصاروا يوجهون الناس إلى العبادات, ويحثونهم عليها, بل ويعظونهم في عدم تركها, ويغلظون القول للذي لا يثبت عليها, وهم لم يعلموهم كيف يحبون هذه العبادة؟ ..
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه أن ترتبط العبادة بقلوبهم قبل جوارحهم, فلقد كان صلى الله عليه وسلم يقول لبلال: (أرحنا بالصلاة يا بلال)(2), ويقول: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)(3) , فصارت الصلاة في توجيهه صلى الله عليه وسلم عبادة أخرى, غير تلك التي ينقرها الناس نقرًا, أو يؤديها بعضهم أداء, وإن التزم فيها بظاهر السنة, ولكنه ضيع أثر العبادة على قلبه, فيقوم من الصلاة وقلبه - أبدًا - لم يستشعر حلاوتها. وقل مثل ذلك في الصوم, وتحذيره صلى الله عليه وسلم للمسلم من أنه ربما لا ينال من عبادة الصوم سوى أن يمنع نفسه من الطعام والشراب (رب صائم ليس له إلا الجوع والعطش)(4).
إن توصيل معنى العبودية للناس ليس قاصرًا على شرح الأصول لهم, وطريقة العبادة, إنما العبوديـة عبودية القلب كما هي عبودية الجوارح ..