وروى البخاري عن أبي ذر- رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله، أي مسجدٍ وُضِعَ في الأرض أولاً؟ قال: "المسجد الحرام".. قلت: ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى". قلت: كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة، وأينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد".
أيها المسلمون في كل مكان.. ويا حجاج بيت الله الحرام:
إن حال الأمة المسلمة والدول الإسلامية وصل إلى درجةٍ من الضعف والتفرق أطمعت فيها أعداءها من الصهاينة وغيرهم؛ فاستبيحت حرماتها واغتصبت مقدساتها، وحيثما توجهت ترى الدماء تراق في بلاد المسلمين، تارةً بيد أعدائها- وأخرى بالتناحر فيما بين أبنائها بإشعال الصهاينة والأمريكان وأعوانهم للحروب فيما بينها، وما يجري في: فلسطين والعراق والصومال واليمن وموريتانيا وأفغانستان وباكستان وكشمير.. ومن قبل ذلك الشيشان والبوسنة والهرسك وكوسوفو وغيرها خير شاهد على ذلك.
ونرى الظلم يضرب بأطنابه في البلاد المسلمة؛ حيث الفساد والاستبداد والطغيان والتسلط الذي تجاوز كل حد، وأصبح لا يحتمل، وينذر بخطر وشر مستطير.. ويعاق بل ويمنع كل من يعمل على رفع الضيم عن صدور أبنائها، أو الوقوف في وجه الظالمين ومقاومة الظلم، أو كشف الفساد والمفسدين، وكل مَن يحاول الإصلاح، أو يسعى لخير الأمة، أو يعمل لتنميتها ونهوضها، ونيل عزتها ومكانتها.
والتقارير الدولية تؤكد أن الدول الإسلامية تتصدر قائمة الدول التي يكثر فيها الفساد، ويستشري فيها المرض، وينتشر بها الجهل، على الرغم من تمتعها بموقع متميز، وخيرات وكنوز كثيرة، وثروات بشرية هائلة، لو أحسنا استخدامها لكنا في مصاف الدول المتقدمة، وما ذلك على الله بعزيز، وليس عنا ببعيد لو قمنا بما كلفنا الله به من الشعائر والشرائع والأعمال فعلاً وإتقانًا، وجعلنا من كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- وهدي الصحابة- رضوان الله عليهم- المنطلق لنهضة الأمة والأساس الذي يقوم عليه بناؤها بالحق والعدل.
يا حجاج بيت الله الحرام:
إن حالنا هذا يحتاج منا جميعًا- مَن يسَّر الله لهم الحج، ومَن هم في أوطانهم يعانون الظلم- أن نتضرع إلى الله بصدق وإخلاص أن يُوحِّد صفنا، وأن يجمع كلمتنا، وأن يوفقنا شعوبًا وحكوماتٍ لما فيه خير الإسلام والمسلمين، ومصلحة الوطن والمواطنين بل والبشرية كلها، وأن نعمل صفًّا واحدًا لنهضة أمتنا ورفعتها، ويتأكد هذا الدعاء ممن هم على عرفات، ومَن أكرمه الله بالطواف حول الكعبة، وعلى جميع المسلمين في يوم عرفة.
الحج رحلة قلوب للتزود بالتقوى
أيها المسلمون:
إن رحلة الحج ليست كغيرها من الرحلات، إنها ليست رحلة بالأجساد فقط إلى مكة، وإنما رحلة ربانية، رحلة نورانية، رحلة قلوب، وأرواح تسعى إلى الله خالقها، فتتصل بأصلها، وتتزود بخير زاد ألا وهو تقوى الله- عز وجل-: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197)﴾ (البقرة).
وإن الأمة حين تتزود بالتقوى تستمد قوةً من الله لا غالبَ لها، وتنعم بالحياة الآمنة المطمئنة، ويظلل المجتمع كله العدل والمساواة والرحمة.
الحج رحلة تربوية
إن الحج رحلة في أعماق التاريخ، تصل المسلم برسل الله الكرام الذين تحملوا المشاق، وتكبدوا الصعاب وعلى رأسهم أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام من أجل إقامة بيت الله وتطهيره، وهداية البشرية الضالة إلى طريق ربها المستقيم، وسوف نقف على بعض الدروس التي يجب على المسلمين أن يأخذوا أنفسهم بها حتى يغير الله حالهم، والتي منها:
- التوحيد والإخلاص:
فإبراهيم عليه السلام أسلم نفسه لله، وخلَّصها مما سواه: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)﴾ (البقرة)، ورسولنا- صلى الله عليه وسلم- هداه ربه إلى دين إبراهيم: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)﴾ (الأنعام)، ومن أول يومٍ دعا أهل مكة إلى هذا التوحيد فقال لهم: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"، وكان عجب قريش من هذا التوحيد فقالوا: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)﴾ (ص).
وحتى نفلح كأفراد وأمة لا بد من تحقيق التوحيد الخالص والانخلاع من الشرك، وتهليل الحجيج يعمق ذلك: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".
ومعنى ذلك أنني خاضع لك، منقاد لأمرك، مستعد لما حملتني من الأمانات؛ طاعة لك، واستسلامًا، دون إكراه أو تردد، وتظهر العبودية والخضوع المطلق لأمر الله من خلال قيامه بأعمال دون أن يدرك لها مغزى حيث يقبل حجرًا- الحجر الأسود- ويرجم آخر، ويقوم بذلك طاعة لله تعالى، فلذلك كان عمر عندما يقبل الحجر الأسود يقول: والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك.
- التجرد التام لله:
ومن الحج نتعلم التجرد التام لله- عز وجل- فالحاج قد خرج من ماله وبيته ووطنه ملبيًا النداء، ثم هو بعد ذلك ينخلع من ملابسه وزينة الحياة ليقف الجميع سواء أمام رب العالمين لا فرق بين غني وفقير، ولا بين عظيم وحقير، وإنما الميزان بينهم: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: من الآية 13).
- التذكير بالآخرة والعمل لها:
وفي هذا المشهد العظيم تذكير بالآخرة يوم يقوم الناس لرب العالمين حفاةً عراةً غرلاً كما ولدتهم أمهاتهم يقومون لله، ليحاسبوا على أعمالهم وما اقترفت جوارحهم.
- حسن التوكل على الله:
إن الحج يزود المسلم باليقين وحسن التوكل على الله، الذي فجَّر الصخر بالماء لإسماعيل وأمه، واستجاب دعاء إبراهيم عليه السلام فساق إليهما أفئدة من الناس، ورزقهم من الثمرات، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57)﴾ (القصص).
وإن المسلم الذي يحرص على مرضاة الله ورضوانه يرجع من هذه الرحلة، وهو على ثقةٍ من أن الله لا يضيع أولياءه، ولو كانوا في أرض قاحلة جرداء، وأم إسماعيل هاجر حين علمت أن بقاءها هي ووليدها في تلك الأرض بأمر من الله قالت: "إذن لا يضيعنا"، فالله عز وجل لا يضيع أهله.
- البذل والتضحية:
وكيف يتردد المسلم في التضحية في سبيل الله، وهو يعلم أن أباه إبراهيم أُمر بذبح ابنه فامتثل، ورضي الابن، وما جزعت الأم: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ (102)﴾ (الصافات).
والله قد اشترى منا أنفسنا وأموالنا ومنحنا الجنة ثمنًا، فكيف نبخل بها وهو مالكنا وما نملك: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ﴾ (التوبة: من الآية 111)، وإذا كان سيدنا إبراهيم عليه السلام امتثل بذبح ابنه فرده إليه مع هدية وجائزة ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)﴾ (الصافات)، فلنمتثل نحن بذبح هواجس النفس الأمَّارة بالسوء، التي تقعد المسلم عن التضحية والبذل والجهاد، فيردها إلينا وقد أصلحها لنا وألهمها تقواها ولنقتل الجبن والشح والبخل في نفوسنا، ولنستعذ بالله من كل عوامل الضعف، والتي علمها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لأحد أصحابه للتخلص من همومه فقَالَ له: "قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ". قَالَ الصحابي: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي.
- وحدة ومساواة وأخوة:
إن هذا الموقف الذي يجمع المسلمين من القارات الخمس على اختلاف الأجناس والألوان واللغات والطبقات، لَيُعْلِن على العالم أجمع، وبصورة تطبيقية عملية، أن الإسلام دين المساواة والتآخي بحق، فالجميع على قلب واحد، وفي لباس واحد، وعلى صعيد واحد، جموع توحدت، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، من اليابان والصين إلى أمريكا وأوروبا.
إنه شعورٌ فياض بين شعوب الأرض جميعًا بالأخوة التي ألف الله بها بين قلوب المسلمين، وصدق الله: ﴿.... هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ...﴾ (الأنفال).
إن هذه الرابطة الإسلامية رباط مقدس بين المسلمين افترضه الله علينا، وأوجب على المسلمين أن يشارك بعضهم بعضًا في السراء والضراء، والشدة والرخاء، وتشترك في الذود عن مصالحها، وتتعاون في رفع الأذى والضيم إذا نزل بأحد منهم. وتعمل على رد العدوان إذا لحق بأي شعب مسلم، وتتقدم بطيب نفس لتتقاسم المنافع والخيرات بينها، فتواسي الشعوب المسلمة التي تحل بها النوازل، أو الزلازل أو المجاعات، وبذلك يحققون التواد والتراحم فيما بينهم، فعن النعمان بن بشير قال: قال رسول- صلى الله عليه وسلم-: "مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
في هذا اللقاء العام والمؤتمر السنوي لوفد الله وعمار بيته الحرام دعوة لجميع المسلمين إلى أن يحل الاتحاد والتقارب محل التفرق والتباعد، والتآزر والتعاون محل التنابذ والتخاذل، والتكامل وتبادل الخبرات والمنافع بدلاً من الاحتياج للعدو الذى لا يرقب فينا إلاًّ ولا ذمة، وأن يشعر المسلمون من خلال وحدتهم بالقوة والمنعة، فلا يستهان بالأقليات منهم في أي بلدٍ من البلدان، ولا يستضعفون، ولا يحرمون من حقوقهم وحرياتهم، ولا تصادر أموالهم، ولا يمنعون عن القيام بواجباتهم؛ لأن هذه الأقلية في أي أرض كانت موصولة بما يزيد عن مليار مسلم يتحركون من أجلها، ويناوئون قوى الأرض مجتمعةً في سبيل رفع الضيم عنها.
- حرمة الدماء والأموال:
وواقعنا يفرض علينا أن نحقن الدماء فيما بيننا، وأن نسمع لرسولنا صلى الله عليه وسلم وهو يعلن في يوم الحج الأكبر: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم ألا هل بلغت؟ قالوا: "نعم". قال: "اللهم فاشهد فليبلغ الشاهد الغائب، فرُبَّ مبلغٍ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض".
وهنا نذكر المسلمين في كل بقاع الأرض الإسلامية بحرمة الدماء والأموال والأعراض، وليحذر المسلم كل الحذر من أن يزين له الشيطان سفك دم أخيه المسلم أو أي إنسان بغير حق أو استباحة عرضه أو استحلال ماله بما يلقيه من شبهات وزخرف القول: ﴿لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)﴾ (الأنعام: من الآية 137).
ألا ما أروع هذا الميثاق النبوي الكريم الذي أعلنه- صلى الله عليه وسلم- في يوم عرفة.. هذا الميثاق الذي لو امتثل له المتقاتلون فيما بينهم، السافكون لدماء بعضهم البعض بغير حق لتوقف نزيف الدم ووضعت الحرب أوزارها.. ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)﴾ (الروم).