منهج الإصلاح والتغيير من قصة "ذي القرنين"
بقلم: د. مصطفى شلبي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه واستن بسنته إلى يوم الدين..
بعد أن نظرنا وتدبرنا في كتاب الله ورأينا مبادئ ربانية للتغيير والإصلاح في سورة البقرة- وتحديدًا في قصة "طالوت وجالوت"- كان لنا جلسة تدبر أخرى مع كتاب الله ومع آيات من سورة الكهف.
بادئ ذي بدء لا بد أن ندرك مدى حاجتنا لمعايشة القرآن في كل وقت وحين، وخاصة في مثل هذه الأيام التي يستيقظ فيها الضالون المضلون يستنهضون أعوانهم من الفاسدين والمفسدين، مستغلين سلطانهم وأموالهم وإمكاناتهم المادية والإعلامية والفنية؛ ليلبسوا الحق بالباطل، فيخلطون المفاهيم ويحاولون جاهدين أن يزيِّنوا الضلال وأهله ويشَّوهوا الحق وأهل الحق في هذه اللحظات التي يقف المرء حيرانًا لا يدري من يصدق وماذا يفعل ولمن يمد يده مؤيدًا ومؤازرًا؟، في هذه اللحظات التي تكثر فيها الآراء ويلتبس عليك الأمر فيها، هذه اللحظات والمواقف، عليك أخي المسلم بالقرآن تتدبر آياته سينير لك الطريق فترى الحق حقًّا، ويرزقك الله اتباعه، وترى الباطل باطلاً ويرزقك اجتنابه، فإنما هذا القرآن هو حبل الله، وهو النور المبين، والشفاء النافع، وهو عصمة لمن تمسَّك به، ونجاة لمن اتبعه، وقد قال تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)﴾ (المائدة).
وآياتنا اليوم من سورة الكهف التي حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم كل المسلمين صغارًا وكبارًا، حكامًا ومحكومين على قراءتها وتدبرها مرة كل أسبوع، فالحاكم حينما يقرأ قصة ذي القرنين فله فيها عظة وعبرة والصغار والشباب حينما يقرءونها فلهم العظة والعبرة وهم حكام ومسئولو المستقبل، فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق". رواه الدارمي (3407)، والحديث صححه الشيخ الألباني في "صحيح الجامع" ( 6471 ).
وقال صلى الله عليه وسلم "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين". رواه الحاكم (2 / 399) والبيهقي (3 / 249). والحديث قال ابن حجر في "تخريج الأذكار": "حديث حسن". والعبرة فيما تحويه هذه السورة من أربع قصص، يربطها محور واحد وهو أنها تجمع الفتن الأربع في الحياة: فتنة الدين والثبات عليه (قصة أهل الكهف) فتنة المال (صاحب الجنتين) فتنة العلم (موسى والخضر) وفتنة السلطة وقصة الحاكم المسلم العادل (ذي القرنين) وصدق الله العظيم وصدق نبيه الكريم، فمن تذاكر وتذكَّر هذه القصص الأربع كل يوم جمعة فجدير به أن ينير الله له حياته ما بين الجمعتين بنور وهدى القرآن. نعيش مع قصة الحاكم والمسئول المسلم العادل قصة ذي القرنين ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)﴾ (الكهف).
وهذه إجابة لأحد الأسئلة الثلاثة التي اقترحها اليهود على وفد قريش لعرضها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال، فقالت لهم: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن، فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل، فالرجل متقوِّل، فروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإنهم قد كان لهم شأن عجيب، وسلوه عن رجل طوَّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبأه؟ وسلوه عن الروح ما هي؟ فإن أخبركم بذلك، فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقوِّل، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم، فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش، فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، فأخبروهم بها، فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا، فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبركم غدًا عما سألتم عنه، ولم يستثن، فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يُحدث الله له في ذلك وحيًا، ولا يأتيه جبريل عليه الصلاة والسلام، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدًا واليوم خمس عشرة ليلة، وقد أصبحنا فيها ولا يخبرنا بشيء عما سألناه، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه الصلاة والسلام من الله عزَّ وجلَّ بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف، وقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ﴾ إلى آخر الآيات.
﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)﴾.
ها نحن أمام نموذج الحاكم المسلم العادل العارف بربه الذي مكَّن الله له في الأرض وأعطاه من كل أسباب التمكين من طاقات بشرية أو إمكانات علمية أو اقتصادية استقرار أمني واقتصادي واجتماعي، كل هذا وأكثر منه قد أعطاه الله إياه ﴿وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾، ومع هذا كله لم يركن هذا القائد الرباني لما أعطاه الله وفقط، ولكنه بذل من الجهد وأعمل الفكر؛ آخذًا بالأسباب لحسن توظيف وتوجيه ما آتاه الله من فضله، وفي هذا عبرة وعظة للأفراد والجماعات والحكام.
فالفرد الذي أنعم الله عليه بنعمة الإسلام ماذا فعلت مع هذه النعمة؟ ما هو حالك مع القرآن؟ ما هو حالك مع ربك في صلاتك وذكرك مع سنة نبيك؟ هل تبذل من الجهد والوقت للحفاظ على هذه النعمة وتطويرها، آخذًا بالأسباب، حتى لا يحرمك الله إياها؟: ﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)﴾.
يا من رزقك الله الزوجة الصالحة ماذا بذلت للحفاظ على هذه النعمة بالكلمة الطيبة للزوجة وحسن العشرة بالمعروف؟
يا من رزقك الله بالبنين ماذا فعلت مع هذه النعمة من أخذ بالأسباب لتربيتهم على حب الله وحب نبيه وآل بيته وتلاوة القرآن؟ وهل بذلت من الجهد لمصاحبتهم وتعليمهم وتربيتهم؟
يا من توليتم حكم مصر هل اتبعتم سببًا فأحسنتم استغلال الموارد الطبيعية التي حبا الله بها مصر من غاز طبيعي وبترول ونيل وأراضٍ تصلح للزراعة وتحقق الاكتفاء الذاتي لشعبها، أم بدَّدتم هذه الموارد، حتى وصل بكم الأمر إلى تصدير الغاز والبترول لأعداء الأمة والدين بأرخص من مصاريف استخراجه؟! هل أحسنتم توظيف هذه الطاقة البشرية المتفردة والمتميزة التي حبا الله بها أرض الكنانة، وهم الذين أوصى بهم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم؟، وكيف بكم وقد أورثتموهم الذل والمرض والقهر والفساد وشوهتم الماضي وتسعون إلى تشويه الحاضر والمستقبل؟!، أيها الحكام اسمعوا قول ربكم ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)﴾ وعليكم بحسن استغلال وتوظيف الموارد الطبيعية وحسن توظيف الطاقات من الشباب والفتيان وعليكم بإصلاح التعليم، لتصلحوا به مستقبل مصر.
يا من ولاَّكم الله حكَّامًا لأمة الإسلام والمسلمين: إن الله سائلكم عما استرعاكم احفظتم أم ضيعتم؟: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) ﴾، في هذا المكان أقصى ما وصل إليه غربًا؛ حيث وجد قومًا من الناس فأعطاه الله حرية رسم السياسة والحكم بما يريد؛ اختبارًا من الله لعبده الصالح؛ ولكي يبيِّن الله لنا مدى احتياجنا للحاكم الصالح العارف لربه الذي يخشاه سبحانه، ماذا يكون تصرفه؟ وكيف يكون حكمه؟ فكان النجاح الباهر في الاختبار.
ما أحوجنا إلى هذا النموذج من الحكام الصالحين الذين يصلح الله بهم العباد والبلاد!، ما أحوجنا لهذا الدستور الذي وضعه هذا الحاكم الصالح العادل!:﴿قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)﴾، دستور الصلاح والإصلاح ما أخذت به أمة إلا أصلح الله شأنها وأعزها.
الظالم الفاسد المرتشي، القاتل الزاني المختلس المزوٍّر الكذاب السارق لأراضي الدولة، المستورد للقمح الفاسد والأطعمة الملوثة وغير الصالحة للاستهلاك الآدمي، والمستوردون للمبيدات المسرطنة وأكياس الدم الملوثة، المزوِّرون إرادة الأمة، المستغلِّون مناصبهم سواء منصب رقابي أي تشريعي أو تنفيذي لتحقيق مكاسب شخصية، كل هؤلاء ومن شابهم ومن فعل فعلهم لهم العذاب من فضحهم أمام الرأي العام وتبيان شناعة فعلهم وخطورته على حاضر الأمة ومستقبلها، أما الصالحون المصلحون أما العارفون لربهم قولاً وعملا ﴿آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً﴾ هم المقربون هم الذين يقدمون على شاشات الفضائيات قدوة إلى الشباب، هم المقربون للحاكم، هم خاصته وأعوانه فيحرص على لقائهم واستنصاحهم﴿َسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)﴾ هم الذين يبش الحاكم في وجوههم ويذكِّرهم بالخير ويحسن لهم القول.
أما أن نسير عكس هذا الدستور القرآني الرباني، فالمقربون هم الفاسدون المفسدون الذين يعيثون في الأرض الفساد، ونتستر على فسادهم وإفسادهم، هم الذين تفتح لهم القنوات الفضائية أبوابها وتقدمهم إلى الشباب قدوة، ويُعيَّنون في المناصب وخاصة الحساسة منها، هم الذين يحسن الحاكم لهم القول، ويفرد لهم اللقاءات، هم المقربون إليه، وفي المقابل الصالحون المصلحون تُشَّوه صورتهم يُعتقَلون ويُسجَنون ظلمًا وعدوانًا!!، تعقد لهم المحاكمات العسكرية مخالفةً للدستور، تصادر أموالهم!! يُستبعدون من الوظائف في الجامعات والاتحادات الطلابية وغيرها!! ويُحوََّلون إلى وظائف إدارية!!، إن كان الأمر كذلك ويصرون على استمرارية ذلك، فلن تجني الأمة إلا الدمار والانهيار، أما الإصلاح والتغيير فطريقه معروف وهو الالتزام بهذا الدستور القرآني الرباني الذي سار عليه ذو القرنين بوضع اللوائح والقوانين التي تردع الظالمين والفاسدين المفسدين: ﴿مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)﴾.
وهكذا دومًا، حال الحاكم العادل الرباني يُجاهد لأمته التي ولاه الله عليهم، يسير شرقًا وغربًا ينشر العدل ويعرِّف الناس بربهم من خلال حكمه العادل وأخلاقه وسلوكياته الربانية وهو يتحرك ويعمل وكله يقين في ﴿كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)﴾، يقينه أن الله مطَّلع عليه ناظر إليه يعلم حركاته وسكناته فهو شديد الحرص على إرضاء ربه وحده لا سواه من قوى الشر والظلم والعدوان: ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)﴾، ثم أخذ بالأسباب حتى وصل إلى مكان بين جبلين ووجد قومًا لا يكادون يفقهون قولاً، وكما قال القرطبي فلا هم يفقهون من غيرهم ولا يفقِّهون غيرهم، فمن شدة أثر الظلم والسلب والنهب والقتل وسبي النساء وانتهاك الأعراض الواقع عليهم من يأجوج ومأجوج لا يدرون ما يقولون، ولا يدرون ما يسمعون، ومع ذلك استطاعوا أن يعرضوا مظلمتهم على الحاكم الصالح ذي القرنين، بل إنهم استطاعوا وضع الحلول لهذه المظلمة ببناء السد ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)﴾، فماذا يفعل الحاكم الصالح الذي آتاه الله من كل شيء سببًا، فهو ليس في حاجة لمساعدتهم لتحقيق مطلبهم ببناء السد ورفع الظلم عنهم، ولكنه يؤصِّل ويضع مبادئ للإصلاح تكفَّل الله بحفظها وتوصيلها إلى الأمم والأفراد إلى أن تقوم الساعة؛ ولعظمتها جعلها الله قرآنًا يُتلَى نتعبده بتلاوته.
الحاكم الصالح يبيِّن لنا يا من تعانون من الفساد والمفسدين، يا من تريدون أن تصلحوا من شأنكم وشأن أوطانكم لا إصلاح إلا بأيديكم لا بد أن تتحركوا جميعًا وتحددوا الأدوار، وليؤدِ كل منكم دوره ولتؤدوا ضريبة الإصلاح والتغيير حينئذ يبارك الله جهودكم ويصلح شأنكم، أما من يعانون الفساد ويتجرَّعون آلامه وينتظرون من يصلح حالهم ويحل مشاكلهم وليس عندهم استعداد للحركة والعطاء والمشاركة ﴿فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً﴾، هؤلاء سيظلون يعانون من الفساد والظلم هم وذريتهم ما لم يتداركهم الله برحمته فيغيروا من أنفسهم فيغير الله حالهم.
أعجبني تصريح أحد الحاصلين على حكم استرد به حقه في المجال الرياضي، حينما سُئل ما السبب وراء رفعه هذه القضية؟ فقال رفعتها لأني أعتقد أني قد ظُلمت وضاع حقي فسلكت الطريق القانوني والقضائي للحصول على حقي، وها أنا في قمة السعادة لحصولي على حقي، ثم أردف قائلاً: لو أن كل مصري ومصرية له حق فسعى وجاهد؛ ليحصل على حقه لكانت مصر أفضل دولة في العالم وصدق القول، فبالإيجابية تحل مشكلاتنا ويهاجر الفساد من أرضنا.
فكانت المشاركة والإيجابية منهج الحاكم الصالح ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾، ﴿آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ﴾، ﴿قَالَ انْفُخُوا﴾، ﴿قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾.
لقد بُني السد بأيديهم وبجهدهم وبخامات من أرضهم ووطنهم لم يستورد ذو القرنين لهم حديدًا ولا نحاسًا من خارج أرضهم ولا طاقات بشرية من غيرهم، فماذا حدث؟ وما الذي استجد عليهم؟ إنها القيادة الراشدة العادلة التي تعيش مشكلات الأمة، وتخلِص في التفكير ووضع حلول لهذه المشكلات، وتشرك ذوي الاختصاص في التفكير والتخطيط، وتشرك الجميع في التنفيذ، فما أحوج الأمة لهذه القيادة الراشدة! ولن تأتي هذه القيادة إلا من خلال انتخابات حرة نزيهة تخرج الأمة جميعها لاختيارها والوقوف خلفها لمساندتها.
لقد رأينا في التاريخ الإسلامي نماذج قيادات ومسئولين تربوا على هذه الآيات والنماذج القرآنية، يحملون هم الناس وهم مشكلاتهم، ووضعوا الحلول لها، وكذلك توفير احتياجات الناس الأساسية من أمثال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد قال مرةً لأحد الولاة: "ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارقٍ أو ناهب؟ فقال هذا الوالي وفق السنة والشريعة: أقطع يده، قال عمر: "إذًا فإن جاءني من رعيتك من هو جائعٌ أو عاطل فسأقطع يدك، فقال له: يا هذا إن الله قد استخلفنا عن خلقه لنسُدَّ جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفِّر لهم حرفتهم، فإن وفينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها، إن هذه الأيدي خُلقت لتعمل، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فاشغلها في الطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية".
ما أعظمها من كلمات! وما أحوجنا لهذه السطور القليلة التي تُكتب بماء الذهب! التي تحدد مهمة الحاكم في سد جوعة الناس وتحقيق الاكتفاء الذاتي في المأكل والمشرب (لنسُدَّ جوعتهم) ثم توفير الأمن لهم على أموالهم وأنفسهم وعوراتهم (ونستر عورتهم) ثم محاربة البطالة بتوفير فرص العمل (ونوفِّر لهم حرفتهم).
ثم كانت جودة العمل والنتيجة وتحقيق المستهدف؛ نتيجة المشاركة في وضع الحلول وتنفيذها من الحاكم والمحكومين، فتم الإصلاح بطريقة استحال على الفاسدين والظالمين العودة مرة أخرى، وعم الصلاح والإصلاح أحوال البلاد والعباد ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)﴾.
تبدَّل الحال فالقوم الذين كانوا لا يأمنون على أنفسهم ولا أموالهم ولا أرضهم ولا أبنائهم ولا زوجاتهم فلا يستطيعون أن يعمروا ولا يزرعوا ولا يصنعوا، أصبحوا آمنين على كل هذا، فهاهم نراهم الآن يسيرون في شوارعهم آمنين ينامون آمنين يزرعون يصنعون يخططون للحاضر والمستقبل وأراهم الآن يقفون وجلين معترفين بالفضل أمام صاحب الفضل عليهم ذي القرنين، يستمعون إلى خطبة النصر، فماذا قال؛ فلنستمع معهم إلى خطبته خاشعين ﴿قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)﴾.
هكذا يكون منطق الحاكم والمسئول الصالح العادل يُرجِع الفضل لصاحب الفضل سبحانه وتعالى لم يُرجِع الفضل لنفسه لم يصبه الغرور لم يتكبر ويتجبر على شعبه؛ لأنه متذكر وعد الله ولقائه سبحانه وتعالى.
أين هذه النماذج الربانية من قيادات ومسئولين يدَّعون إنجازات وانتصارات وهمية يتخذونها ذريعة لاستذلال شعوبهم واستعبادهم.
فاللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا وشفاء صدورنا وذهاب غمنا وهمنا وحزننا، اللهم اجعلنا ممن يحلون حلاله ويحرمون حرامه، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه إلى كل خير، ومن أراد الإسلام والمسلمين بسوء فرد كيده في نحره واجعل تدميره في تدبيره وخذه أخذ عزيز مقتدر، اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه اللهم ولِ علينا خيارنا ولا تولِ علينا شرارنا، اللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا يُعزُّ فيه أهل طاعتك ويُذلُّ فيه أهل معصيتك، اللهم آمين آمين آمين.
المصدر:
موقع اخوان اولاين