رسالة من: أ. د. محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن والاه.. وبعد
فقد اقتضت سنة الله في خلقه أن يكون شأن المسلمين مع الأمم الجاحدة بالله والمستكبرة على شرع الله، مثل كفتي ميزان إذا رجحت إحداهما طاشت الأخرى، فإذا كان المسلمون صادقين مع الله أوفياء في تنفيذ منهاجه وشرعه هيَّأ الله لهمم أسباب لعزة والمنعة والنصر ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ (الأنبياء: من الآية 18)، وإذا ضيَّعوا شرائع الله وأحكامه وشاع فيهم المنكر وغاب بينهم المعروف، انتشر الظلم والفساد وطغى عليهم غيرهم بالظلم والقهر والإذلال.
وإذا كان الكثير من المسلمين قد غضبوا- ولهم الحق في ذلك- لقيام بعض المنحرفين بالتهديد بحرق المصحف، إلا أنه كان يجب عليهم أن يدركوا أنهم حين انصرفوا عن شرع الله وتعاليمه وساد بينهم الظلم دبَّ فيهم الوهن وحب الدنيا، وصدق رسول الله صلى الله عليهم في حديثه: "..ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله. قال: حب الدنيا وكراهية الموت". (رواه أبو داوود).
هلاك الأمم بسب الظلم والطغيان:
الظلم نوعان؛ ظلم الناس لأنفسهم بالفسق والفجور والخروج عن طاعة الله والتظالم فيما بينهم، وظلم الحكام لشعوبهم على نحوٍ يهدر حقوقهم ويذهب بعزتهم وكرامتهم مما يجعل الأمة ضعيفة غير صالحة للبقاء فيسهل على الأعداء هزيمتها واستعبادها ويصدق عليها قول الله عز وجل: ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)﴾ (الأنبياء: 11).
إن الدول يمكن أن تبقى مع الكفر إن عدلت ولا تبقى مع الظلم وإن أسلمت، إذ ليس من سنته تعالى إهلاك الدولة بكفرها فقط، ولكن إذا انضم للكفر ظلم حكامها للرعية وتظالم الناس فيما بينهم يقول عز وجل: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)﴾ (هود).
ومن آثار الظلم خراب البلاد اقتصاديًّا وعمرانيًّا وزهد الناس في العمل والإنتاج وسعيهم الدائم للفرار والخروج منها؛ مما يجعل الدولة ضعيفةً أمام أعدائها الخارجيين وإن بقيت قوة الطغيان على مواطنيها الضعفاء والمظلومين، يقول تعالى: ﴿فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ (45)﴾ (الحج).
من عقلية الوهن إلى عقلية العزة:
لقد فشل العديد من النظم العربية والإسلامية في النهوض بشعوبهم بسبب علاقات التبعية وبحكم الوهن وأصبحت تتصرف في أحيان كثيرة ضد مصالح الأمة وإن طلبت لها الدواء أحيانًا أخطأت وطلبت الداء بحكم عقلية الوهن، وأصبحت أرض العروبة والإسلام تعاني من المشاكل لأن الإرادة غابت وتُركت بيد الأعداء من الصهاينة وأعوانهم، ولقد نسوا أو تناسوا عدوهم الحقيقي الجاثم على صدورهم والمتمثل في الكيان الصهيونى وصوبوا أسلحتهم تجاه شعوبهم هروبًا من مواجهة هؤلاء الصهاينة، فلم يحققوا للأمة وحدةً ولا نهضة، وتغافلوا عن أمر الله بالجهاد في سبيله بالمال والنفس لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذي كفروا السفلى فيقول تعالى: ﴿انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41)﴾ (التوبة: 41).
فما أحوج المسلمين اليوم إلى عقلية العزة وإلى تحصيل كل أسباب القوة فهم يواجهون صهينةً عالميًّا لا تعرف إلا لغة القوة فعليهم أن يقرعوا الحديد بالحديد ويقابلوا الريح بالإعصار، وما أحوجهم أن يدركوا أن الإصلاح والتغيير الذي تنشده الأمة لا يمكن تحقيقه إلا بالجهاد والتضحية وصياغة جيل مجاهد يحرص على الموت كما يحرص الأعداء على الحياة.
المقاومة هي الحل الوحيد:
لقد انتهت فترة المفاوضات غير المباشرة ولم يجنِ الفلسطينيون منها شيئًا ولم يتعلم المفاوض الفلسطيني منها درسًا ولم يأخذ منها عبرة، وها هي السلطة الفلسطينية- وقد عادت إلى التفاوض مع الصهاينة-توشك أن تلفظ أنفاسها الأخيرة على طاولة المفاوضات المباشرة.
ويتأهب الشعب الفلسطيني لانتفاضة ثالثة في ذكرى الانتفاضة الثانية، ونرى هذا الشعب الآن يغلي كالمرجل في الضفة وغزة ضد الصهاينة ومن يدعمونهم.
إن أمريكا لن تستطيع فرض تسوية على الشعب الفلسطيني مهما امتلكت من المال وأسباب القوة فها هي تنسحب مهزومة ومثخنة بالجراح في العراق، وهي على وشك الانسحاب من أفغانستان، فالطائرات والصواريخ والتكنولوجيا العسكرية الحديثة تنهزم أمام إرادات الشعوب إذا ما أصرَّت على المقاومة وما حرب غزة ولبنان منا ببعيد.
فالمقاومة هي الحل الوحيد أمام الغطرسة والطغيان الصهيو أمريكي، ويكفي أن الشعوب العربية والإسلامية تقف جميعها خلف المقاومة بالدعم والتأييد، والشعوب تعي جيدًا مَن هم المقاومون ومَن هم الذي باعوا القضية وساوموا عليها، ونقول لإخواننا المجاهدين في غزة اصبروا وصابروا ورابطوا واعلموا أن الله معكم ولي يتركم أعمالكم ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)﴾ (آل عمران: 139).
سقوط أمريكا وزوال الكيان الصهيوني:
وإذا كان الاتحاد السوفيتي قد سقط بطريقةٍ درامية، فإن الأسباب المؤدية إلى انهيار أمريكا هي أقوى بكثيرٍ من تلك التي حطمت الإمبراطورية السوفيتية لأن الأمة التي لا تعلي من شأن الفضائل الأخلاقية والقيم الإنسانية لا يمكن أن تقود البشرية ولن تغني عنها أموالها إذا جاء أمر الله كما حدث مع الأمم السابقة، وها نحن نرى أمريكا تعيش الآن بداية النهاية وتسير نحو هلاكها: ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (45)﴾ (الأنعام)، ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا﴾ (ق: من الآية 36).
أما الصهاينة فيكفي شهادة مارتين- كرافيلد أستاذ التاريخ في الجامعة العبرية والمتخصص في الإستراتيجية العسكرية في مقابلةٍ مع الصحفي "أيالون"، والمنشور بصحيفة "امتساع خضيرة" بتاريخ 8/3/2002م، وكان السؤال الموجه له: ماذا سيحدث للجيش الصهيوني إذا دُعي لمقاتلة جيش نظامي كسوريا أو لبنان؟ فأجاب: ظني أنه سيهرب فإذا ما انفجرت حرب مثل حرب 1973م فإن غالبية الجيش سيضع رجليه على ظهره ويولي هاربًا، وإن حرب الصهاينة ضد الضعفاء ما زالت مستمرة.. منذ أكثر من عشرين عامًا ومنذ اقتحام لبنان وقد تحوَّل الجيش إلى مجموعةٍ من الجبناء والتعساء، وأضاف كرفيلد: عندما نكون في الجنائز العسكرية: فإننا نولول وننوح (نياحة)، بينما الفلسطينيون يطالبون بالانتقام في جنائزهم.
الأمة المسلمة تمتلك إمكانات الإصلاح والتغيير:
إن الأمة المسلمة تمتلك أسباب الإصلاح والتغيير ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ (فاطر: 32)، فلديها الشرعة والمنهاج ومعالم الطريق ولديها النموذج التطبيقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلوبه في السيرة النبوية التي تُشكِّل وسيلةَ الإيضاح المُعينة لكيفية التعامل مع قيم الكتاب والسنة في كل زمان ومكان يُضاف إلى ذلك المخزون التاريخي من تجارب النبوات السابقة وأحوال الأمم وكيفية سقوطها أو نهوضها.
إن سلامةَ الأفكار أو المنظومة الفكرية هي أساس التغيير لذلك فإن الله تعالى اعتبر الجهاد بالقرآن وبناء الشوكة الفكرية هو أعلى أنواع الجهاد، وإن التغيير الحقيقي تم بالقرآن (الفكرة)، فقال تعالى: ﴿وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ (الفرقان: من الآية 52).
ولذلك فإن الصورة المزيفة للتغيير والتحويل حتى ولو وصلت إلى السلطة السياسية والدولة دون امتلاك المقومات الفكرية تبقى معزولةً عن ضمير الأمة وعاجزة عن التغيير مهما امتدَّ بها الزمن.
وعد الله بالتمكين:
يقول تعالى: ﴿سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)﴾ (القمر) تقدم هذه الآية وعدًا قرآنيًّا للمؤمنين بأنهم سوف يهزمون جمع الأعداء في المستقبل، وسوف تولى هذه الجمع الدبر، ولقد تلقى الصحابة هذا الوعد القرآني وهم مستضعفون في مكة معذبون مضطهدون فيها، لقد كانت القوة والغلبة وقت نزول الآية التي أطلقت ذلك الوعد لقادة مكة وزعماؤها الذين كان بيدهم الأمر والمال والجاه والقرار، وكان الناس أتباع لهم بينما كان المسلمون في مكة أقلية ضعفاء لا يملكون مالا ولا سلطانا ولا متاعًا، وبعد سنين قليلة من الهجرة جاء إنجاز الله لوعده القرآني الذي أطلقه قبل أكثر من تسع سنوات من الهجرة، وكان ذلك في غزوة بدر، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما نزل قوله تعالى: ﴿سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ جعلتُ أقول: أي جمع سيُهزم؟ حتى كان يوم بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يُثَّبِتْ في الدرع وهو يقول: ﴿سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ فعرفتُ تأويلها يومئذ... فهل يمكننا مقارنة ذلك بما حدث في غزة؟!!
وها نحن اليوم نرى مدى حاجة الأمة إلى الوحدة وإلى الترابط وإلى حسن الإعداد وقبل كل ذلك اللجوء إلى الله تعالى، فيا أمة الإسلام اتحدي، ويا أبناء فلسطين توحدوا جميعًا أمام الأعداء الذين يمكرون بكم واعلموا أن الله خير الماكرين، وأنكم بالله منتصرون وأن الإسلام قادرٌ على مواجهة الظلم والطغيان، ولنعلم جميعًا أن نتيجة المواجهة محسومة سلفًا وقررها الله عز وجل في قوله: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾ (الرعد: 17)، وفي قوله: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ(173)﴾ (الصافات).
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل