االــعـبــد الــحـُــر
إن مسلماً نودي بالسير مع الهمم العالية ، فانـتـفـض ، و أفـلـت من قـيود الأرض ، وحلق بجناح العزة : هـو مسلم حري به أن يتم انتـفاضتـه بخطوة تميـز واضحة .
أو كما قال سيد رحمه الله : إن " أولى الخطوات في الطريق أن يتميز هذا المنهج و يتـفرد ، ولا يتـلـقى أصحابه التوجيه من الجاهلية الطامة من حولهم ، كيما يظل المنهج نظيفاً سليماً ، إلى أن يأذن الله بقيادته للبشرية مرة أخرى " ... وهذا يعني قيام مفاصلة شعورية وفكرية في ضمير المسلم ، يـنـفـصل فيها التحديد الإسلامي الواضح للمعاني الثلاثة المهمة المكونة لكل منهج ، وهي : معنى الوطن ، ومعنى الحاكم ، ومعنى الدستور ، عن الاطلاقات الجاهلية في تـفسيرها ، وعما بعد الإطلاق من اختلاف اجتهادات العـقـول . فالأمة الإسلامية قد حدد الله تعالى مقوماتها ، و جعل : " الجنسية فيها هي العقيدة . والوطن فيها هو دار الإسلام . والحاكم فيها هـو الله . والدستور فيها هو القـرآن .
هذا التصور الرفيع للدار و للجنسية و للقرابة هو الذي ينبغي أن يسطر على قلوب أصحاب الدعوة إلى الله ، و الذي ينبغي أن يكون من الوضوح بحيث لا تختـلط به أوضار التصورات الجاهـلية الدخيلة ، ولا تتسرب إليه صور الشرك الخفية . الشرك بالأرض ، والشرك بالجنس ، والشرك بالقوم ، والشرك بالنسب ، والشرك بالمنافع الصغيرة القريبة "
وحملة الإسلام إنما ينطلقون بهذا المفهوم الإسلامي الواضح ، ويعلنوه ، دونما ملاطفة لأفكار الكـفـر الأرضية ، ولا مهادنة ، ولا محاولة استرضاء . وإنه لأمر جازم من الله لهم أن : { ادعـوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون } .. " ولن يرضى الكافرون من المؤمنين أن يخلصوا دينهم لله وأن يدعوه وحده دون سواه ، ولا أمل في أن يرضوا عن هذا مهما لاطفوهم أو هادنوهم أو تـلمسوا رضاهـم بشتى الأساليب . فليمض المؤمنون في وجهتهم ، يدعون ربهم وحده ويخلصون له عـقـيدتهم ، ويصفون له قـلوبهم . ولا عليهم رضي الكافـرون أم سخطوا ، وماهـم يوماً براضين "
فما دامت هذه النتيجة حتمية ، وأن الكافرين لن يرضوا عن المؤمنين ، فليسلك الدعاة إذن ما يناسبها من مقدمات ترد على تمرد الكفر و رفضه الإيمان .
ولن يكون هذا الرد غير التميز ، و الانفصال عنه .
طالما أنه ليس هناك لقاء ، فإن المنطق يقتضي الانفصال إذن , كما فاصَـلَ النبي صلى الله عليه وسلم كفار قريش في العهد المكي ، و كما فاصل كل القبائـل بعد الهجرة . ولم تكن تـلك المفاصلة النبوية الكريمة مجرد اضطرار لجأ إليه في حقبة تاريخية تبدو لنا آخذة دورها في تسلسل تاريخ الدعوة النبوية ، و إنما كانت حقيقة إيمانية و دلالة نعمة ربانية ، من شأنها أن يلتـفـت لها المؤمنون . و تـلمس هذا في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذكرهم بها ، و يتخذها عاملاً تربوياً للذين معه ، فيقول لما صلى بهم يوماً صلاة العشاء قريباً من نصف الليل : ( أبشروا أن من نعمة الله عليكم أنه ليس من الناس أحد يصلي هذه الساعة غيركم ) , وذلك " قبل أن يـفشو الإسلام في الناس " كما يقول الراوي .
إنه جعلها بشرى ونعمة ربانية ، وكذلك تربى نفوس المؤمنين على معاني الاستعلاء ، وتوكيد إلحاحهم في تحدي الجاهـلية كلها مهما فشت وعمت وانتشرت وكثـر أصحابها , ومهما قـل عدد المسلمين وانحصروا في دويرة صغيرة ، كما كانوا في دويرة المدينة ومن حولهم هذه الجزيرة العربية الواسعة الأطراف ، الكثيرة القبائل .
والمس عظم أثـر هذه التربية ، وتحولها إصرارا وثباتاُ في الدين ، وتجديد عزم على المضي ، حين يقول من سمع هذه البشرى : " فرجعنا فرحين بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم " ... فتصور هذه الدويرة الإسلامية المتميزة في الجزيرة الكافرة . كانت هناك طليعة إسلامية " تـزاول نوعاً من العزلة من جانب ، ونوعاً من الاتصال من الجانب الآخر بالجاهلية المحيطة " , وهي في الحقيقة استمرار للمفاصلة التي كانت في العهـد المكي ، فظهـرت في المدينة بصورة كاملة واضحة . و ما كانت نفوس المسلمين لتصبر في المدينة على لوازم هذه المفاصلة لولم تـكن قد ربيـت قبل الهجرة تربية صلبة عميقة على أولوياتها ومقدماتها ، فيومها : " في مكة ، لم تـكن للإسلام شريعة ولا دولة ولكن الذين كانوا ينطقون بالشهادتين كانوا يسلمون قيادهم من فورهم للقيادة المحمدية ويمنحون ولاءهم من فورهم للعصبة المسلمة ، كما كانوا ينسلخون من القيادة الجاهلية ويتمردون عليها ، وينزعون ولاءهم من الأسرة والعشيرة والقبيلة والقيادة الجاهلية بمجرد نطقهم بالشهادتين " .. كان " الإسلام هو تـلـك الحركة المصاحبة للنطق بالشهادتين ، هـو الانخلاع من المجتمع الجاهلي وتصوراته وقيمه وقيادتـه وسلطانه وشرائعه ، والولاء لقيادة الدعوة الإسلامية وللعصبية المسلمة التي تريد أن تحقق الإسلام في عالم الواقع " , فلما تجلى هذا التميز بصورة أوضح في المدينة ، صار المجتمع الإسلامي مناراً واضحاً في تـلـك الصحراء ، يأوي إليه الهائم والمتشكك ، ومـن يحـتـدم في قلبه الصراع بين الإيمان والكـفـر الموروث .
فلما اتسع المجتمع الإسلامي ، وانتصر ، ودانت كل الجزيرة بدين الله : استـمرت هـذه الحاجة إلى مفاصلة بـقـايـا الجاهـلـيـة المـتـمـاثـلـة بـبـقـايـا الـنـفـاق واتباع الـشـهـوات .
وهي مفاصلة ثانية ، واجبة أيضاً . فكما أن المفاصلة الأولى أفادت في إيجاد عزة الإيمان في نـفـوس المفاصلين ، وفي جعل المدينة مناراً يأوي إليه الحائر ، فإن المفاصلة الثانية كانت ضرورية للحفاظ على نـقـاوة جهاز دولة الإسلام ، المحافظ على سمات حـكـمـه وفـقهه وتربيته وفتوحة . ومن هنا دعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى هذه المفاصلة الثانية بعبارة جامعة رائعة فقال : (إن لله عباداً يميتون الباطل بهجره ، ويحيون الحق بذكره)
وقـد استعمل كلمة الهجر للدلالة على المفاصلة التي نعنيها . وهذا يعني أن عنصر النفاق و ا تباع الشهوات كلما زاد في المجتمع ، زادت هذه الحاجة إلى هذا النوع الثاني من المفاصلة ، بعملية طردية ، ليبقى الباطل باطلاً مشاراً إليه بأصبع الاتهام ، و لئلا يحيـله التـقادم إلى حق موهـوم في ذهن الذين لا يعون ، فينطـلي زوره ، و ينسى الناس اعوجاجه ، و لئلا تستسيغه النفوس من بعد ، حين يطول الأمد .
و لذلك فإن الدعوة الإسلامية اليوم لا بد لها إزاء زيادة النفاق و الفسق و اتباع الشهـوات في المجتمع الحاضر من هذه المفاصلة ، و من هذا التميز ، بشكل واضح صريح ، لتبقى الصورة الإسلامية جلية واضحة بدورها ، يمكن أن ينظر إليها من يبتغي النظر إليها ، ممن تحفزهم كلمات الدعاة لمحاولة اكتشاف أبعاد هذه الصورة ، و التـفـتـيـش عنها و تـلمس مثـل تـطـبـيـقـي لها .
و الحقيقة أنه و إن افـتـقـد الدعاة في هذا القرن صورة حكم إسلامي يصلح مثلاً لتطبيق الإسلام ، إلا أن هذا المثـل يمكن أن يتجلى في بعض أشخاص من الدعاة ، تتضح فيهم معاني الإسلام ، ويكتسبون من هيبته ، و يبلغون الذورة في الإيمان والتجرد وتطبيق السنة النبوية الشريفة . وهذا هو معنى ( القدوة ) في صورتها البسيطة .
إن وجود ( القدوة الإٍسلامية ) يعني وجود شخص يدرك الناظر إليه أنه مستـقـل في فكرتـه و عـقـيدته ، و سكناته و حركاتـه ، عما حوله ، منفصل عنهم ، تميزه الأبصار قبل المعاملة ، بما تعلوا وجهه من معالم السكينة و الهيبة و الحزم التي شاء الله أن ينفرد بحيازتها المسلم دون غيره ، فيعوض بذلك عن صورة الحكم الإسلامي المفتـقـد ، ويكون بديلاً لها ، وبرهاناً على أن الإسلام قادر أن ينتج مثل هذه النماذج الإنسانية الرفيعة ، أو بالأحرى : يكون برهاناً على أن مثـل هذه النماذج لا ينتجها غير الإسلام .
و أبو القاسم الجنيد رحمه الله يعبر عن هذا الانفصال للقدوة الإسلامية بعبارة ( الحرية عما سوى الله ) ، أي ليس بينه و بين ما سوى الله رابط أو قيد أو نسب أو ميل أو رغبة ، بل هي الحرية بمدلولها الذي يفهمه كل حر ، فيقول : " لا يكون العبد عبداً حتى يكون مما سوى الله تعالى حراً " ويعبر مرة أخرى عن هذا الانفصال بأنه "عبودية الأحرار" أو " حرية العبيد" ، فيصوغ سطراً بليغاً رفيعاً يغني عن عشر مجلدات ، ويـقـول : " إنــك لا تصل إلى صريح الحرية وعليك من حقيقة عبوديته بـقـية " .
فلأن الإسلام كله عبودية لله تعالى ، فإن العبد التام العبودية الذي سماه الجنيد , هـو وحده الحر في هذا الوجود دون غيره من أسارى الشهوات واجتهادات العـقول القاصرة , وهذا التعبير الجميل ورثه الجنيد عن أفضل الزهاد العباد : الفضيل بن عياض رحمه الله ، إذ أبرز الفضيل بمقابل الحرية مما سوى الله : واجب المسلم في تجريد الربانية له واطراح كل ربانية لأحد من الخلق يريد أن يفرضها عليه بثمن مادي ، أو بالـقـسـر و الاكراه ، فيقول الفضيل : " والله ، ما صدق الله في عبوديته من لأحد من المخلوقين عليه ربانية " . فالمسلم يفرد الله بالعبادة ، و إفراده بالعبادة يقتضي أن يعلن بصراحة ووضوح براءته مما يعبد الغير ، ومما يشرعون لأنـفسهم ، و يجهـر بذلك مفاصلاً ، كما فاصل نبي الله هود عليه السلام قومه بقوله : { إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تـشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تُـنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هـو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستـقيم * فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوماً غيركم ولا تضرونه شيئاً إن ربي على كل شيء حفيظ }
" إنها انتـفاضة التبرؤ من القوم - وقد كان منهم وكان أخاهم – وانتـفاضة الخوف من البقاء فيهم وقد اتخذوا غير طريق الله طريقاً . وانتفاضة المفاصلة بين حزبين لا يلتـقيان على وشيجة ، وقد انبتـّت بينهما وشيجة العقيدة . وهو يشهد الله على براءته من قومه الضالين وانعزاله عنهم وانفصاله منهم ، ويشهدهم هم أنفسهم على هذه البراءة منهم في وجوهم ، كي لا تبقى في أنفسهم شبهة من نـفوره و خوفه أن يكون منهم . و ذلك كله مع عزة الإيمان و استعلائه ، و مع ثـقـة الإيمان واطمئنانه ! وإن الإنسان ليدهش لرجل فرد يواجه قوماً غلاظاً شداداً حمقى ، يبلغ بهم الجهل أن يعتـقـدوا أن هذه المعبودات الزائفة تمس رجلاً فيهذي ، و يروا في الدعوة إلى الله الواحد هذياناً من أثر المس ! يدهش لرجل يواجه هؤلاء القوم الواثـقين بآلهتهم المفتـراه هذه الثـقة ، فيسفه عقيدتهم و يقرعهم عليها و يؤنبهم ، ثم يهيج صراوتهم بالتحدي لا يطلب مهلة ليستعد استعدادهم ، ولا يدعهم يتريثون فيفثأ غضبهم . إن الإنسان ليدهش لرجل فرد يقتحم هذا الاقتحام على قوم غلاظ شداد ، و لكن الدهشة تـزول عندما يتدبر العوامل و الأسباب .
إنه الإيمان ، و الثـقة ، و الاطمئنان . و الإيمان بالله ، و الـثـقـة بوعده ، و الاطمئنان إلى نصره ، الإيمان الذي يخالط الـقـلب ، فإذا وعد الله بالنصر حقيقة ملموسة في هذا الـقـلـب لا يشك فيها لحظة ، لأنها ملء يديه ، وملء قلبه الذي بين جنبيه ، وليست وعداً للمستـقبـل في ضمير الغيب ، إنما هي حاضر تتملاه العين و الـقـلب "
{ إن ربي على صراط مستـقيم } ..
" فهي الـقوة والاستـقامة والتصميم . وفي هذه الكلمات القوية الحاسمة ندرك سر ذلك الاستعلاء وسر ذلك التحدي . إنها ترسم صورة الحقيقة التي يجدها نبي الله هود عليه السلام في نـفسه من ربه . أنه يجد هذه الحقيقة واضحة . إن ربه ورب الخلائق قوي قاهر : { ما من دابة إلا هـو آخذ بناصيتها } ، وهؤلاء الغلاظ الأشداء من قومه إن هم إلا دواب من تـلـك الدواب التي يأخذ ربه بناصيتها و يقهرها بقوتـه قهـراً ، فما خوفه من هذه الدواب و ما احتـفـاله بها ، وهي لا تسلط عليه - إن سلطت - إلا بإذن ربه ؟ وما بقاؤه فيها وقـد اخـتـلف طريقها عن طريقه ؟ إن هذه الحقيقة التي يجدها صاحب الدعوة نـفـسه ، لا تدع في قلبه مجالاً للشك في عاقبة أمره , ولا مجالاً للتـردد عن المضي في طريقه . إنها حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب الصفوة المؤمنة أبداً " .
وقد فقه الإمام البنا رحمه الله هذه النظرية في المفاصلة ، فنادى بوجوب تربية النشء وفق معانيها ، وأوضح أن مستـقبل الإسلام إنما يعتمد على " هذا النشء الجديد ، فأحسنوا دعوته ، وجدوا في تكوينه ، وعلموه استـقلال النفس والقـلـب ، واستـقلال الفـكـر والعـقـل ، واستـقلال الجهاد و العمل , واملأوا روحه الوثابة بجلال الإسلام وروعة القرآن ، و جندوه تحت لواء محمد ورايته ، و سترون منه في القريب الحاكم المسلم الذي يجاهد نفسه و يسعد غيره " ... فهو قد عبر عن المفاصلة بالاستـقلال ، كما عبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عنها بالهجر . فاستـقلال النفس والقلب هو المفاصلة الشعورية في الضمير ، و العزة و الاستعلاء .
و استغلال الفكر هو عدم خلط الشريعة بالتصورات الأرضية المبتدعة التي أضلت الأحزاب . و استـقلال العمل هو التميز في الصف ، و تـرك الأحلاف . وكما أنها مهمة هؤلاء الدعاة في تـربية النشء ، فإنها مهمتهم في وجوب الانتباه لنـفـوسهم ، والثبات على هذه المفاصلة . أو كما قال الإمام : " لا تصغروا في أنفسكم ، فتـقـيسوا أنفسكم بغيركم ، أو تـسلكوا في دعوتكم سبيلاً غير سبيل المؤمنين ، أو توازنوا بين دعوتكم التي تتخذ نورها من نور الله ، و منهاجها من سنة رسوله ، بغيرها من الدعـوات التي تخلقها الضرورات ، و تذهب بها الحوادث و الأيام " . ومن مكملات ذلك و ضرورياته حفظ صفاء الابتداء و نقاوته ، و كما يجب على الداعية أن يحفظ لمن يدعوهم الهمة ، و يسيرهم مع الهمم العالية ، فإن عليه أن يحفظ لهم صفاء الابتداء ، فإن الأيام الأولى للسير في طريق الدعوة تحسم مدى الصفاء مثلما تحسم منزلة الهمة .
إن من يفتح عينه على المفاهيم الإسلامية النقية المستمدة من القرآن و السنة فحسب غير المشوبة بترهات غير إسلامية فإنه يبدأ وينشأ ويشب و يشيب و يموت على هذه المفاهيم ، و من سقي المخاليط ذات الشوائب صعبت عليه التـنقية بعد .
و لقد وعى أبو القاسم إبراهيم بن محمد النصر آباذي المتوفي سنة 367 هـ هذا المعنى أروع الوعي فقال :
" ما ضل أحد في هذا الطريق إلا بـفساد الابتداء , فإن فساد الابتداء يؤثر في الانتهاء " .
فأحسن البداية و أتـقنها يا داعية الإسلام .