- الابـــتـــدَاء
كل ممارس للعمل التربوي الإسلامي الحركي يلحظ لا بد ظاهرة سقوط البعض وتراجعهم ، فأنت ترى داعية سالكاً مع السالكين ، و تظن أنه سيثبت ، و لكنه يخيب ظنك أثناء الطريق ، بأن تصدمه رهبة أو رغبة ، أو يستأسر لنداء نفس وهوى ، فيغتر ، و يستولي عليه التيه إدلالاً وامتـناناً ، فيصيبه الفتور .
وربما استعصى تعليل مثل هذه الظاهرة حيناً ، ولكن تـفرّسنا في أنفسنا ، و التـنقيب عن الفقه التربوي في آثار رجال التربية الأقدمين : بدأ يرينا ملامح من التـفسير لها ، إن وُعِيت حق وعيها لكان فيها بإذن الله ثبات القـلوب ، ولوُقِينا زلل الأقدام بعد ثبوتها .
• هو صفاء الابتداء
فأما الشاعر : فيشير إشارة عامة إلى تـفسير مثـل هذه الظاهرة ، ويـقول :
وكل امرئٍ - والله بالناس عالم - **** له عادة قامت عليها شمائله
تـعوّدها فـيمـا مضى مـن شـبابه **** كـذلك يـدعو كـل أمـر أوائـله
والشاهـد فيه : الشطـر الأخير ، فكـل أمـر تغـلب عليه الصفـة التي بدأ بها .
ولكن أساتذة التربية الأوائل قربوا أدنى من الشاعر ، فاتضح وانكشف لنا مذهبهم ، بما فصّلوا وعينوا من معنى أوائل الأمور .
منهم من صاغ ذلك في حروف قليلة شاملة ، فقال : " الفترة بعد المجاهدة : من فساد الابتداء " .
ويريد بالفترة : الفتور .
فهـو الابتداء إذن ، أي الخطوات الأولى للداعية المسلم في طريق الدعوة الموصل إلى الله ، تـكون صحيحة ، فيرتـقي بلا فتور ونكوص ، وإن فتـر فبـمـقـدار لا يتعدى أدنى ما أثـر من سنّـة النبي صلى الله عليه وسلم . وتـكون معيبة هذه الخطوات ، فيفتـر و ينكص عن الارتـقاء .
ولكن من أين يعترض الداعية الفتور إذا دفعه مربّوه بـقوة أول مرة ؟
و كيف لا يتسارع في يومه وغده سير من قطع به أمسه مرحلة نحو غايته ؟
و من أيقن أنه يتبع رسولاً من أولي العزم ، صلى الله عليه وسلم ، فكيف لا يستمد من عزمه ؟
فهي الخطوات الأولى إذن : من جعلناها له متـقنة : ثبتت بعد ذلك قدمه ، بما يشاء الله ، ومن تركناه يضطرب فقـد أعطينا لشيطانه المقص يقطع به حبل ما بيننا و بينه ، يتربص لذلك غـفـلة .
فإن لم يحصل الشيطان على المقـص ، وفاتته المفاجأة ، فإنه يقنع بأن يمسك طرف الحبل يفلّ خيوطه بتدريج ، ويلقي في نفس من اعوجت بدايته الدعاوي ، ويريه قليل خيره وعمله كثيراً ، حتى يستولي عليه الغرور والتطاول ، فيرتكس هالكاً .
وهذه العقدة الثانية للشيطان أبصرها آخر من الصالحين ، ووصفها يحذرنا ، فقال : " إنما تتولد الدعاوي من فساد الابتداء ، فمن صحت بدايتـه : صحت نهايته ، ومن فسدت بدايته : فربما هلك " .
بل يهلك في الأغلب ، فإن مبني البداية على التجرد ، فإذا حرم من صفائه في الأول فإن بنيانه يظل مهتـزاً مهما شمخ عالياً ، بل الخطر كل الخطر عليه في الحقيقة إذا شمخ ، فإنه يسرع إلى التمايل عند كل نداء ببدعة أو دعوة لمغنم ، لأن من شأن الشيطان أن يزين البدعة و يجملها ، و أن من شأنه أن يستغل وقت الحاجة ليغري ، ولئن تردد هذا الرجل الصالح فذكر مجرد الاحتمال و استعمل كلمة ( ربما ) ، ولئن تردنا فاقتصرنا على ( الأغلب ) ، فإن ثالثاً قد جزم بذلك فقال : " من لم يصح في مبادئ إرادته : لا يَسلم في منتهى عاقبتـه " .
وما هو بنسيان منه لمشيئة الله تهدي و تـثبت من يختار ، ولكنه يتحدث عن تجربتـه في التربية ، ويقدم تـقريره عن نتائج تـفتيشه واستـقـراء أحوال من عرفهم .
وهكذا تـكون عنايتـنا بالابتداء خطاً بارزاً ظاهراً في فنّناً التربوي الحركي .
• وهي النية الحرة
وإنما يعنون بصفاء الابتداء معنيين يتتابعان في توال ، فيتلازمان : النية الصالحة ، والهمة العالية ، حصرهما البحتري في شطر مبين و سماهما :
نفس تضيء ، وهمة تتوقد
و النفس المضيئة كناية عن النفس التي احتوت نية صافية ، فهي تـنير بما يكون لها من هذا الصفاء .
وهي : ( النية الحرة ) التي ذكرها البحتري أيضاً في بيت آخر ، فأحسن الوصف وأجاد ، فكأنها حرة مما يقيد غيرها ، من الأهواء والأطماع والمصالح ، لم يستعبدها درهم ولا دينار ولا جمال أنثى ، ولم تكن رقيقاً لمنصب أو شهوة .
فالداعية لا يصدر قط عن شهوة ، ولا طلب مصلحة ، و إنما له في كل حركة وسكنة تطلعات إلى الأجر .
وكذلك كان الصالحون .
وبهذا الوصف وصف هشام بن عبد الملك ابن عمه عمر بن عبد العزيز الأموي رحمه الله فقال : " ما أحسب عمر خطا خطوة قط إلا وله فيها نية " . ولذلك استطاع عمر في أقل من سنتين تقويم اعوجاج جيلين ، وعلى داعية الإسلام اليوم أن لا يستـكبر عظم الانحراف الذي عمّ بلاد الإسلام ، فإنه – إن قَرن كل خطوة بنية مثل الراشد الخامس – سيهزم حزبين بإذن الله في أقل من سنتين .
و يتعاظم الخير في عقود المؤمنين مع الله كلما زاد تجردهم حين العقد ، ولذلك رأت الدنيا عظم الخير في ولاية عمر بن عبد العزيز لما تجرد سليمان بن عبد الملك رحمه الله محض التجرد حين عقد له واستخلفه وقال :
" لأعقدنَّ عقداً لا يكون للشيطان فيه نصيب " .
بل العمل الصغير بالنية يعظم ، كما يشير عبد الله بن المبارك في قوله : " رُب عمل صغير تعظمه النية ، ورب عمل كبير تصغره النية " .
ومعقود اللسان من الدعاة يصبح بالنية ناثراً من فيه جواهر البلاغة الآسرة للناس ، كما ينص على ذلك طب عبدالقادر الكيلاني في قوله : " كن صحيحاً في السر : تكن فصيحاً في العلانية "
وأما المخلط في نيته فيخلط عليه في أموره وسيرته ، كان ذلك في التاريخ على أهل التخليط حتماً مقضياً ، وهو المعنى الذي كشفه التابعي الجليل مُطرَّف بن الصحابي الجليل عبد الله بن الشخِيّر العامري في قوله : " صلاح العمل بصلاح القـلب ، وصلاح القـلب بصلاح النية ، ومن صفا : صُفّي له . ومن خلط : خُلَّط عليه " .
ونتيجة التخليط أن يضطرب القلب في فوضى تعدم السكينة ، و " إن الخطأ الأكبر أن تـنظيم الحياة من حولك ، وتترك الفوضى في قلبك " ، كما يقول مصطفى صادق الرفاعي .
فاعرف سياسة النفس هذه أيها الداعية ، وأتقِن ولوجها قبل ولوج سياسة الحكم ، فإنه : " فرض على العامل أن يعرف النية من الأمنية " , كما قيل .
فهناك نية وهناك أمنية ، والأمر كما قال يحيى بن معاذ : " لا يزال العبد مقروناً بالتواني , مادام مقيماً على وعد الأماني " .
وما اختار أحدٌ الأماني تـقوده إلا كان أثـقـل ما يكون خطواً ، ووجد ثَم السراب الخادع ، وعّدِم الماءَ وقت العطش ، وأما المضيء النفس ، ومن لا أمنية له من الدعاة ، فإنك تجده سبّاقاً إلى كل خير أبداً ، وتجده على ري دوماً فإنه إن كان ذا قوة : استـقى لنفسه ، أو استسقى ، فيجيبه الله بهطل من السماء ، وإن كان مستضعفاً : وجد وريثاً لموسى عليه السلام ، يسقي له ويزاحم الرعاع .
• وهو قدم الهول
والهِمّة قرينة النية ، فلا شيء بعد النية قبلها ، وكل الاتـقان بعدها ، ومن أكسبها من المربين تلاميذه عند خطواتهم الأولى فقد ضمن لهم الاستمرار إن شاء الله , و قد قيل : " همتـك احفظها ، فإن الهمة مقدمة الأشياء ، فمن صلحت له همته وصدق فيها : صلح له ما وراء ذلك من الأعمال " .
ويمثل لها ابن القيم بمثل لطيف ، فيقول : " مثل القلب مثل الطائر ، كلما علا : بعد عن الآفات ، وكلما نزل : احتوشته الآفات " .
فكما أن الاستعلاء بالهمة يبقي القـلب نظيفاً بريئاً من المعنى الخسيس مشغولاً بالعظام ، فإنه أيضاً يقي القلب الآفات والأمراض وسهام الشيطان ، كما تـقي نهضة الجناحين الطائر سهام الصياد ، و مهمة المربي المسلم : أن يعلم الناشئ هذه النهضة العالية في مبادئ محاولاته .
و نهضة الجناحين هي بدورها كناية عن النفس التي احتوت تصميماً على حمل أثقال الدعوة إلى الله ، فإن الجديد في سلك الدعوة إن فهم الدعوة في الأول مجرد تـزكية نفس ، و صحبة أخيار ، وبث أشواق ، وفرصة تكافل ، فإنه يحجم عن إنكار المنكر على الظالم ، و يستعـصي عليه فهم معادلة ابن يزدانيار في الفراسة ، والتي فهمها من قبله الرجال ، ويـرجع عن الزحف يوم الزحف و قائمة أعذاره تحت أحد إبطيه ، أولها : أنه لم يُنذر بمثل هذا من قبل ، ولا يحتوي هذا الشرط عقده ، ولذلك حرص رجال التربية على أن تكون أول خطوة للسالك : خطوة هّول ، كخطوة السبعين من قدماء الأنصار ساعة بيعة العقبة حين أخذوا على أنفسهم أن يمنعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يمنعون منه نسائهم وأبنائهم وأموالهم .
فهو هول الجهاد ، أو هول الإنكار ، وليس ما في التجافي عن دار الغرور ذات الشهوات و التـقليـل من الأموال و الملذات بأقـل من هذين الهولين .
فإن أحب الدنيا فإنما يحبها كحب محمد بن أحمد المعروف بابن رزقويه ، ذلك الحب الذي يكشف عن همة عالية وراءه ، والذي ترجمه مخاطباً تلامذته :
" والله ما أحب الحياة في الدنيا لكسب ولا تجارة ، ولكن لذكر الله ، ولقراءتي عليكم الحديث "
وإنما ذكر الحديث كمثل لجنس الصالحات التي يجب على الداعية أن يحب الدنيا لأجلها لا لغيرها .
وعن أجيال السلف أخذ جيل المجددين في هذا القرن فـقه الهمة ففهم الإمام حسن البنا أن الداعية الهمام : " يبذل كل ماله ، وكل دمه ، وكل نفسه ، في سبيل عقيدتـه التي آمن بها وعاش من أجلها " .