ينقلنا الراشد فى كتابه الرائع العوائق نقلة قوية نقلة أحببت أن أسميها هزة يقظة يهزنا فيها الراشد هزة شديدة وحتى تحدث الهزة أثرها فنحتاج إلى قراءه تلك الكلمات بعين القلب والعقل وإسقاطها على واقعنا الدعوى المعاصر كل بحاله
يقول الراشد :الجندية طريق القيادة، ويوجد ثمة غرور عند البعض وتجاوز يجب تشذيبهما كذلك مضى فقه الدعوة صريحا حاسمًا.
إنها صراحة والله، لا تظنن أنها خشونة فتهرب منها وتعافها نفسك، فإن أصررت على وصفها بأنها خشونة، فإنما هي خشونة التربية التي سلكها عبد القادر الكيلاني من قبل، فظنوا كما ظننت، فقال لهم
لا تهربوا من خشونة كلامي، فما رباني إلا الخشن في دين الله عز وجل)
ونقول لدعاة اليوم كما قال: لا تهربوا من خشونة كلامنا وصراحته، فإن الكلمات الدبلوماسية لا تنفع في تربية الدعاة، ولا أساليب الإيماء، بل هي الإشارة الواضحة فحسب تربي، بلا اعتداء وجرح.
فتنبه أخى الداعية إلى أن المربى قد يلجأ إلى خشونة فى الكلمات تقتضيها المواقف وبحسب مقتضيات المقام والحال فخشونة الكلمات أحيانا نحتاجها جميعا لتربية أنفسنا
ومع هذه التربية يحتاج الداعية إلى وقفه محاسبه مع نفسه يقول الراشد :
وأولى للداعية المسلم أن يكون صريحا مع نفسه قبل ذاك، يخلو خلال تأنيه في الفتن، وخلال انتظاره اكتمال فقه، فيحاسب نفسه بعاتبها، ألا يقع في الشبهات فمن لم يحاسب نفسه في أموره يقع في عظيم مشكل متشابه فإن مهمل نفسه تزدريه الشبه، فلا تقنع منه بطفيف، وإنما تأتيه الشبهات كبيرة، عظيمة الإشكال، خفية التوريط، توهم القلب، فيتعكر الشعور، أو تؤلب اللسان، فيلحن النطق أو تميل بالأذن، فيتشوش السمع، أو تغلق الأجفان فيغبش النظر.
ولابد لطالب الفقه من حساب وعتاب يعاتب القلب: لم يكبح؟ ولم يريد قطع استرساله مع معاني الخير و عزمات العمل، ويأذن لإغراء الدنيويات أو يسامره؟ إنها ساعات التخليط أصبحت تطول في يوم الدعاة، وكأن سمت الأمس قد تغير ولو صدق أحدنا نفسه، وأفصح عن حقيقته، لاعترف بالذي اعترف به أبو العتاهية حين قال: تزاهدت في الدنيا، وإني لراغب أرى رغبتي ممزوجة بزهادتي
فأكثرنا يقع في هذا التخليط: قدم في الدعوة، وقدم في الدنيويات والرغبات والآمال العراض وقد أتعبنا الذين يربوننا وأرهقناهم فلا نحن ممن ييأس العمل منهم فيتركهم وهو في مأمن من اللوم، لقدم الدعوة ذاك، ولا نحن بالمشمرين حق التشمير فنريحه، بل يعوقنا قدم الدنيا عن سرعة انطلاق عرف بها جيل الدعوة الأول إلى أ‘لام لا زالت مرفوعة والله لنا كما رفعت له.
وما هي إلا ساعة عتاب واحدة تنهي تعدد الولاء لو تدبرنا هزة إيقاظ، لكتف غفلة، من لسان صراحة يعرف كيف يقول: تيقظ، تيقظ.. تيقظ
تيقظ، فإنك في غفلة يميد بك السكر فيمن يميد
تنافس في جمع مال حطام وكل يزول، وكل يبيــد
كأنك لم تركيف الفنا وكيف يموت الغلام الجليد
وتنقص في كل تنفيسة وأنك في ظنك قد تــزيد
فهي الأحلام وأضغاثها تخدع توهمنا أننا نريد، وإنما هي الأنفاس تواصل نقصها، والسكر بالتكاثر يميد بنا فيمن يميد.
ويعاتب الداعية من بعد لسانه: لم يستحل اللحن والهذر والجدال؟ ولو فقه المرء لأدرك أن صدق الاندفاع يغني عن صدق اللسان أصلا، فهو في غير حاجة إلى كثرة كلام لو كان صادقا
والداعية يسبق بفعله قبل أن يفصح بلسانه، يقتدي في ذلك بأبي الفضل بن مالك لما وصفه تلميذه الجنيد فقال: (يسبق فعله قوله) فإن قال واحتاج إلى النطق: فهو القول الواحد الذي لا يتبدل، وهو القول الواضح الذي لا تلعثم فيه.
نهج واحد، بوضوح كامل، يكشفان عن قلب في الصدر واحد، لا قلوب موزعة، وعن ثبات في صفاء، لم تكدرهما رجرجة ولا أخلاط، فإن اللسان ما زال يترجم للقلب، ولم تزل عفتهما سواء، ولهما شرف وعرض مشترك، وإنما فسق الألفاظ من فسق الشغاف، وما الألسن إلا مغارف للأفئدة، تماما كما رآها البارحة يحيي بن معاذ على حقيقتها، فوصفها لك، ونبهك إلى أن:
(القلوب كالقدور في الصدور، تغلي بما فيها، ومغارفها: ألسنتها، فانتظر الرجل حتى يتكلم، فإن لسانه يغترف لك ما في قلبه، من بين حلو وحامض، وعذب وأجاج، يخبرك عن طعم قلبه: اغتراف لسانه).
تشبيه قد يكون ساذجًا كما يبدو لأول وهلة، لكن فيه روعة الحقيقة، وصدق الوصف اغتراف اللسان يذيقك طعم القلب، ما كذب والله وما غلط، ولم يتقدم بين يدي الله المستأثر بعلم ما في الصدور، لكنها فراسة الإيمان: تسمع حركات اللسان وتميز نغماته، فترى الذي يجيش بين الضلوع.
ثم يأتيك صحب من دعاة بعد هذا، يملأون ليلهم رئاء ومراء، وتشقيق كلام وتدقيق ألفاظ، والفرص تمر من بين أيديهم ومن خلفهم، يرقبون أن تتدلى لهم عجيبة الدنيا الكبرى في استئناف الحكم الإسلامي بحبل تدليا، ويحملون بقطاف لم يتقنوا سقي ثمره، ينسون أن الدهر لا يأتي بالعجائب، وإنما هي تضحيات، الرجال وخالصات الفعال، لا اللغو، ولا تقليب الكفوف والمناحة على واقع المسلمين.
ولئن سألتهم: لم التشقيق والتدقيق؟
ليقولن نريد الفقه، ونبغي الوعي، ونتقن التخطيط، وهم بذلك قد أخطأوا من حيث أصابوا، واختلط الحق الذي ذهبوا إليه بباطل من مخالفة أحكام التفاضل، فإنهم تمسكوا بفرع على حساب أصل، ودندنوا حول سنن قد تفوت معها فرائض الأخوة، ووعي قد تنسى الأرواح بعده دروب التأليف.
ولو تأملوا بهدوء وحسبوا ووازنوا، لعرفوا أن لقاء الدعاة الهادئ، تحت جناح التحابب والاحترام المتبادل: خير من طلب صاخب للوعي، فإنه لو لم يكن في اللقاء إلا تثبيت بعض الدعاة لبعض، وإلا السناد النفسي في مثل هذه المحن الشديدة والضراء الطويلة، لنال لقاؤهم وصف النجاح، لكنهم صحب يستعجلون.
والكلام النفيس هذا لا يحتاج إلى كثير كلام أو تعليق منى وإنما هى وقفة صادقة مع أنفسنا لعل هذه الهزة تحدث أثرها فى نفوسنا جميعا