يستشهد الشيخ الراشد بموقف من السيرة وهو لما لم يعط النبي -صلى الله عليه وسلم- جعيل بن سراقة الضمري رضي الله عنه شيئا من المال، وهو المهاجر المجاهد، وأعطى من هو دونه، وظنها سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه إهمالا لجعيل، وأراد توثيقه: قام النبي -صلى الله عليه وسلم- مقترحًا:
قال سعد: (فساررته قلت: مالك عن فلان، والله إني لأراه مؤمنًا؟ قال: أو مسلمًا) فذكر ابن حجر أن هذا الحديث يتضمن من الفقه: (أن الإسرار بالنصيحة أولى من الإعلان),. قال: (وقد يتعين إذا جر الإعلان إلى مفسدة)
ولما طلبوا من أسامة بن زيد رضي الله عنه أن يكلم بعض الأمراء حول أمر ضجروه منه قال: (إنكم لترون أني لا أكلمه؟ إلا أسمعكم أني أكلمه في السر دون أن أفتح بابا لا أكون أول من فتحه؟)
فأخبرهم أنه لم يغفل عن ذلك، وأنه كلمه، ولكن في السر، خوفا أن يستغل أهل الأهواء كلامه، فيتخذونه ذريعة إلى الفتن والمفاسد فلهذا يسمي هذا النور: نور أسامة، وما زال يتولى إيقاده من دعاة اليوم كل أسامة.
هذا الفقه التنظيمى نحتاج إلى تدبره دائما وفى كل وقت صغر العمل أو كبر فالكثير من العلن بالنصيحة قد يصيب العمل بمخاطر كثيره فتنبه
لا تعن سفاكًا!!
ويصور لنا أبو معبد عبد الله بن عكيم الجهني، وهو أحد قدماء التابعين المخضرمين الثقات ممن أدرك رمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يره، مبلغ أساه وندمه وحسرته على كلمات تفوه بها زمن عثمان رضي الله عنه نصحه بهن جهارًا، يظن أن فيه مساوئ، وحاشا الراشد الثالث من المساوئ فتلقف كلماته أصحاب الأغراض، واستباحوا دمه الشريف بهن وأمثالهن.
وراموا دم الإسلام لا من جهالة
ولا خطأ، بل حاولوه على عمد
ففي حلقة دراسية انعقدت في المدينة لتدريب وتفقيه الجيل الجديد من رجال دولة الإسلام المكلف باستدراك ما صنعته الفتنة: حاضر عبد الله بن عكيم، وطفق يلخص لهم تجارب المخلصين فقال: (لا أعين على دم خليفة أبدًا بعد عثمان) وكانت كلمة مثيرة منه حقا وتأخذ الجميع إطراقة، فما ثم إلا عيون تتبادلا لنظر مستغربة ما يقوله الرجل الصالح.
ما لهذا الشيخ البرئ المؤمن الذي لم يرفع في وجه عثمان سيفا أبدًا يتهم نفسه ويلومها على ما لم يفعل؟
وينبري جزئ لسؤاله:
(يا أبا معبد: أو أعنت على دمه)؟
فيقول:إني لأرى ذكر مساوئ الرجل عونا على دمه
فهو يتهم نفسه بجزء من دم عثمان لأنه رأى بأم عينه كيف أن ما ظنه وقام في نفسه من أنه الحق قد أدى إلى استغلال الرعاع له حين يتكلم به، وكيف طوروه حتى قتلوا عثمان رضي الله عنه إنها حساسية النفس الصادقة في توبتها ينطق بها ابن عكيم، مع أنه ما كان يكره عثمان حين تفوه بتلك الكلمات، فإن ابنه يقول: كان أبي يحب عثمان
وهذا يقتضي أنه قال كلماته الناقدة بلهجة المحب وما فيها من الرفق واللين، ومع ذلك نتج عنها من المفاسد ما نتج، فكيف لو أنضاف إلى علانية النقد لفظ ردئ، وعبرت عنه لهجة عنيفة؟
إن الجيل الجديد من رجال دعوة الإسلام الحديث –إذ هو يتفقه اليوم في حلقاته الدراسية لاستدراك ما صنعته فتن الأمس- مدعو إلى ملاحظة المغزى العظيم المهم لقصة عبد الله بن عكيم، وتجربته الصادقة.
لا تكن ساذجًا أيها الداعية، فإنها تحريشات من حولك لسفك دم الدعوة.
احذر، والتفت إلى عيب نفسك، وصن سمعك و سارر بنصيحتك ونقدك، ولا تعن بلسانك.