مسيحيو مصر وكنائسهم تحت ظلال الإسلام ... (2)
- المسلمون وإجلال دور العبادة المسيحية في مصر
...كان الفتح الإسلامي لمصر سنة 641م/ 20هـ بمثابة عهد جديد للمسيحيين في مصر، اختلف تمامًا عن العهد السابق؛ حيث تخلصت الكنيسة المصرية من أعمال الظلم والعدوان الذي تعرضت له، وتمتعوا بكامل حريتهم الدينية التي سلبها منهم حكام بيزنطة؛ وذلك انطلاقًا من تعاليم الإسلام الحنيف الذي أعطى أهل الذمة من اليهود والنصارى الأمان، فيذكر رهبان دير سانت كاترين أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لهم عهدًا في السنة الثانية للهجرة، أمانًا لهم وللنصارى كلهم على أرواحهم وأموالهم وبيعهم، وما زالوا محتفظين به، وهو العهد الذي جاء فيه: "لا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا بيت من بيوت كنائسهم، ولا يدخل شيء من مال كنائسهم في مسجد ولا منازل المسلمين".
كما أن سيدنا عمرو بن العاص بعد فتحه مصر أعطى المسيحيين بها أمانًا جاء فيه: "هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وبرهم وبحرهم لا يدخل عليه شيء ولا ينتقص"، وكان دائمًا يوصي في خطبة المسلمين بمراعاة مسيحيي مصر، والمحافظة على حسن جوارهم قائلاً: "استوصوا بمن جاورتموه من القبط خيرًا".
كما أن موقفه من بطريرك المسيحيين اليعاقبة، بنيامين، واضحًا، وهو الذي كان هاربًا من وجه الحاكم البيزنطي قيرس، فقد بعث له سيدنا عمرو بن العاص بأمان بعث به إلى سائر البلاد المصرية يقول فيه: "فليظهر الشيخ البطريرك مُطمئنًا على نفسه، وعلى طائفة القبط جميعهم التي بالديار المصرية وغيرها آمنين على أنفسهم من كل مكروه"، وحين عاد البطريرك بنيامين أكرمه سيدنا عمرو، وأمر له أن يتسلم الكنائس وأملاكها؛ ما جعل المسيحيين يشعرون منذ البداية بأن المسلمين لا يحملون لهم كرهًا أو يخفون لهم اضطهادًا جديدًا، بل كان معظم إدارة الدولة وعمالها من المسيحيين.
وقد أورد المؤرخ الكنسي ساويرس بن المقفع في كتابه تاريخ البطاركة بأن عمرو بن العاص لم يرتكب أعمال السرقة والنهب التي كانت تحدث زمن الرومان على الكنائس والأديرة المسيحية في مصر؛ وهو ما أكده بتلر في كتابه فتح العرب لمصر، فيذكر بأن: "حكم العرب كان خيرًا وبركة على أقباط مصر"، وبدأت حركة التعمير والبناء للكنائس واسترد اليعاقبة كنائسهم، بل شيدت كنيسة في مدينة الفسطاط عاصمة المسلمين الأولى، وهو ما يقرره أبو صالح الأرمني في كتابه كنائس وأديرة مصر أثناء ولاية مسلمة بن مخلد الأنصاري، وشيدت مجموعة من الكنائس في ولاية عبد العزيز بن مروان وتعهدت الدولة برعايتها، وفي خلافة هشام بن عبد الملك أولى رعاية كبيرة للكنائس المصرية وأديرتها لكل الطوائف سواء يعاقبة أو ملكانيين، فقد بعث لصاحب خارج مصر عبد الله بن الحبحاب يأمره بأن يسلم للملكانيين كنائسهم على إثر الاتفاق الذي تمَّ بين الخليفة هشام بن عبد الملك والإمبراطور البيزنطي
واستمرت رعاية الخلفاء والولاة للكنائس المصرية خلال الخلافة العباسية، وظلت حركة التعمير والبناء مستمرة في مباني المسيحيين الدينية، وكان الخلفاء العباسيون يكرمون الأساقفة ويجالسونهم، وأكثر من ذلك فقد توافد على الخلافة العباسية في بغداد كثير من المسيحيين ومن أهل الذمة كافة، شاركوا في أمور وأحوال الدولة الإسلامية، وفي ذلك يقول جورجي زيدان في كتابه تاريخ التمدن الإسلامي: "إنهم خدموا العباسيين بعقولهم وأقلامهم بما آنسوه من تسامحهم وإطلاق حرية الدين لهم، بل وصل الأمر بهم أن تولوا مناصب قيادية إذ تقلد بعض منهم ديوان الجيش"، ويذكر أن الخليفة المأمون حين قدم مصر جعل على مدينة بورة وما حولها قبطيًّا، فتمكن من أن يبني كثيرًا من الكنائس في المدينة وما حولها.
ولما تمكن أحمد بن طولون من تأسيس الدولة الطولونية محققًا استقلالاً ذاتيًّا عن الخلافة العباسية، تمتعت الكنيسة المصرية بالرعاية والاهتمام، بل كان هو نفسه ابن طولون ابنه خماروية من بعده يقومان بزيارة أديرة الصحراء؛ ليتفقد أحوالها ويرعى الأساقفة والرهبان، على حد قول ساويرس بن المقفع والمؤرخ الشابشتي صاحب كتاب الديارات.
واستمرت الكنيسة المصرية ورجالها يتمتعون بمزيد من الرعاية والاهتمام خلال العصر الفاطمي، فقد قرر خلفاء الدولة الفاطمية أرزاقًا ثابتة لأديرة الصحراء لإصلاحها، كما كانوا يقومون بزيارات لأديرة الصحراء لتفقدها ورعاية رهبانها ومشاركتهم أعيادهم، وبلغت حركة التعمير والبناء للكنائس والأديرة ذروتها في هذا العصر ولكل الطوائف المسيحية بلا استثناء، وأورد لنا أبو صالح الأرمني قائمة بالكنائس والأديرة المسيحية حتى عام 1200م؛ حيث بلغت 2084 كنيسة، و834 ديرًا موزعة على أبروشيات مصر لمختلفة.
استمرت رعاية الحكام المسلمين لتلك الآثار، كما سمحوا ببناء الكثير منها، ومما سبق يتضح مدى الرعاية والاهتمام الذي لحق بدور العبادة المسيحية في مصر من رعاية.
- الكنائس والأديرة المسيحية تحت ظلال لجنة حفظ الآثار العربيه
سأحاول هنا أن ألقي نظرة سريعة عن تاريخ الاهتمام بالآثار المسيحية في التاريخ الحديث لمصر، ففي أواخر القرن التاسع عشر صدر مرسوم خديوي من الخديوي توفيق في 18 ديسمبر 1881م بإنشاء لجنة حفظ الآثار العربية، وكانت هذه اللجنة تابعة في ذلك الوقت لوزارة الأوقاف إلى أن تمَّ ضمها إلى وزارة المعارف سنة 1936م، وقد أسهمت تلك اللجنة بدور كبير في الحفاظ على تراثنا الإسلامي من الضياع، فقد ظلت تعمل على ترميم الآثار والحفاظ عليها والنشر عنها حتى ثورة يوليو 1952م؛ حيث ضمت اللجنة سنة 1954م مع الأجهزة الخاصة بالآثار في جهاز واحد أطلق عليه مصلحة الآثار الذي تمَّ تغيير اسمه بعد ذلك إلى هيئة الآثار المصرية، ثم المجلس الأعلى للآثار حاليًّا، ولولا وجود هذه اللجنة لما بقيت لنا آثار إسلامية.. فَتَحِيَّة منا لها.
وفي سنة 1893م بدأ الحديث عن ضرورة الاهتمام بالآثار القبطية؛ حيث طلبت أقطاب مسيحية إشراف لجنة حفظ الآثار العربية على الآثار القبطية، وبعد التداول بين اللجنة والبطريركية انتهت إلى وضع الآثار القبطية تحت ظلال اللجنة، وصدر القرار على الرغم من اعتراض الشعب المسيحي، وبدأ الاهتمام الفعلي عام 1897م؛ حيث تم تعيين نخلة بك الباراتي عضوًا باللجنة لمتابعة شئون الآثار القبطية، وقامت البطريركية من جانبها بتخصيص مبلغ 200 جنيه سنويًّا؛ للمساهمة في الحفاظ على الآثار القبطية، وكلفت لجنة حفظ الآثار العربية المهندس. حسن محمد توفيق بترميم الآثار المسيحية، فقام سيادته بعمله على أحسن وجه، وانتهى من ترميم الكنائس المسجلة، وبدأ في تجميل المناطق حول الكنائس، وكانت علاقته بالمسيحيين علاقة وطيدة، حتى إنهم كانوا يداعبونه باسم حنا توفيق.
وتمَّ نشر تقريرين عن كنائس القاهرة، وتوالى الاهتمام بآثار القاهرة المسيحية، تلاها الاهتمام بآثار الأقاليم؛ حيث تمَّ الاهتمام بأديرة وادي النطرون، وكذلك الديرين الأبيض والأحمر بمحافظة سوهاج، وعمَّ الاهتمام جميع أديرة وكنائس مصر.
كما اهتمت اللجنة بالتحف الباقية من تراث المسيحيين، وفي سنة 1898م خصصت قاعة في الكنيسة المعلقة لجمع التحف، ثم بدأ بعد ذلك إنشاء المتحف القبطي، الذي أهداه مرقص سميكة باشا للملك فؤاد، ورغم كل ذلك ثار الشعب المسيحي، فكتب مرقص سميكة باشا في مقدمة كتابه عن المتحف القبطي يُطمئن الشعب المسيحي بأن ما حدث هو لصالح المتحف، كما سبق من ضم الآثار القبطية إلى لجنة حفظ الآثار العربية، ولولا ذلك لرُممت على غير أصولها القديمة، ويطيب لي أن أُسجل هنا أن ما حظيت به الآثار القبطية من رعاية لجنة حفظ الآثار من الإشادة من ميريت غالي بك أحد زعماء الأقباط، ومن الدكتور. لبيب حبشي المتخصص في الآثار المصرية، ومن كبار العارفين بالآثار القبطية.
وبعد ثورة يوليو تَبِعت الآثار القبطية للمناطق الأثرية الموجودة بها، وقامت تلك المناطق بترميم الآثار المُسجلة بها ورعايتها.
وهناك محاولة لفصل الآثار القبطية عن قطاع الآثار الإسلامية والقبطية المسئول عن رعايتها وإنشاء الإدارة العامة لتوثيق الآثار وتسجيلها، وأود أن أنوه بأن الإدارة الجديدة لن تكون في مصلحة الآثار القبطية، بل إنها ستُطلق أيدي المسئولين عن الكنائس في الترميم حسب أهوائهم.
ومن خلال هذا العرض نستطيع أن نقرر حقيقة تاريخية تدعمها الشواهد المعمارية والزخرفية بأن التراث المعماري المسيحي بمصر تمَّ تشكيله من مدرسة الفن البيزنطي قبل فتح العرب لمصر في التخطيط، ومدرسة الطراز الإسلامي للزخارف بعد فتح العرب لمصر، فمعظم الكنائس والأديرة القائمة بما تشمله من زخارف والمواد المستعملة في مبانيها وطريقة البناء وزخارف الأخشاب؛ فكلها على الطراز الإسلامي، والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
بقلم: د. عماد عجوة