رجال القمة.. ومظاهر القوة
د. محمد حبيب
***************
رجال القمة غير رجال السفح ..
هذا هو المعنى الذي قصده الشابي، شاعر تونس العظيم في هذا البيت المبدع:
ومن لم يتعلم صعود الجبال.......... يعش أبد الدهر بين الحفر
رجال القمة لا يوجد سقف لطموحاتهم، ولا أفق لآمالهم وأحلامهم ..
هم رجال قيم ومبادئ، أصحاب مروءة وشهامة، تلمس فيهم روحا وثابة وفروسية نادرة ..
هم عند كلمتهم لا يتزحزحون عنها، ولهم مواقفهم التي تكشف عن مواطن القوة
وجوانب العظمة في شخصياتهم ..
لا يهتزون عند الشدائد والمحن، ولا ينحنون أمام العواصف الهوجاء.
يعلمون أن الصعود إلى القمة يحتاج همماً عالية وإرادة صلبة وعزماً فولاذياً،
وأن الطريق إليها وعر وصعب وشاق، فضلا عن أنه محفوف بالمخاطر ..
لذلك فهو يتطلب استعدادات خاصة، خبرات عملية، معرفة بالدروب،
قدرة كبيرة على التحمل، شجاعة الاقتحام، صبر وإصرار ومثابرة، ارتباط بالهدف،
استعلاء على جواذب المادة، وهكذا.
في قراءتي لسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، كنت أمر على واقعة مشهورة
نعرفها جميعا، ولا أتوقف عندها طويلا، وهى واقعة مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم
صحابته في إعداد الطعام أثناء إحدى السفريات ..
كان على القوم أن يذبحوا شاة .. قال واحد من الصحابة: أنا على ذبحها ..
قال ثان: وأنا علىّ سلخها ..
قال ثالث: وأنا علىَّ طهيها ..
قال النبي: وأنا علىَّ جمع الحطب ..
أقول كنت أمر علىَّ هذه القصة، فلا أجد معنى في ذهني أكثر من معنى المشاركة،
وهو معنى جميل وجليل بلا شك، خاصة من شخصية لها هذا القدر من الجلال والكمال ..
إلا أنني لم أدرك المعنى الحقيقي وراء هذا السلوك إلا حينما قمت برحلة بحثية في عمق
صحراء الجبال غرب مدينة سفاجا ..
إذ بعد وصولنا إلى المكان الذي سنقيم فيه خيامنا، اكتشفنا أننا نسينا عمود الخيمة،
وما أدراك ما عمود الخيمة ..
قمنا نبحث بالسيارة عن فرع شجرة يصلح لهذا الغرض.
هل تعرف أخي القارئ كم من الوقت مضى ونحن نبحث عن ضالتنا في الصحراء؟
حوالي ساعتين ..
نستطيع أن ندرك إذن قول النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا علىَّ جمع الحطب،
إنه اختار أشق الأعمال وأكثرها نصبا وتعباً ..
وهكذا القيادة والمسؤولية ..
ومن ثم لا تتصور أنك حين تصبح قائدا أو مسئولا أنك سوف تجلس على كرسي وثير وحولك
الأتباع والأعوان، ثم تصدر إليهم أوامرك..
القيادة إذن أمانة ومسؤولية وعبء وتبعة وحقوق ومواقف.
إن العمائر الضخمة والأبراج العالية تتطلب أساسات قوية وأعمدة صلبة،
حتى تتمكن من الصمود أمام الرياح العاتية،
أما علب الصفيح وأكشاك الخشب فتزول عند هبوب النسيم ..
كما أن الأبراج التي بنيت بصدق وإخلاص تثبت وتقاوم،
أما تلك التي دخلها غش وتحايل، وخالطها فساد ومال حرام،
فسرعان ما تنهار ومعها أحلام، بل حياة ساكنيها.
إن الصعود إلى القمة يستلزم رجالا يفضلون الموت في عزة وكرامة على الحياة في ذلة ومهانة ..
إن الناس جميعا يموتون وتختلف الأسباب،
منهم من عاش قليلا، لكنه صنع تاريخا وأحيا أمة،
ومنهم من عاش طويلا، لكنه لم يصنع شيئا لأمته ولا حتى لنفسه ..
الصنف الأول تلهج الألسن بذكره على مدار التاريخ،
أما الثاني فلا يذكره أحد، لا حاضرا ولا مستقبلا ..
لكن المشكلة تكمن في هذا الحرص الذي أذل أعناق الرجال ..
في كتابه العزيز قال ربنا جل وعلا يصف يهوداً: «ولتجدنهم أحرص الناس على حياة..» ..
في مقام التحقير والزراية.
يصنف المبدع جمال حمدان، الذي حلت ذكرى وفاته منذ يومين، الاعتدال في الشخصية
المصرية على أنه «تطرف في الاعتدال» ويعتبره إفراطا في السلبية ..
ثم يقول: إن ما تحتاجه مصر أساسا إنما هو ثورة نفسية، بمعنى ثورة على نفسها أولا،
وعلى نفسيتها ثانيا
(تذكر الآية المباشرة: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»).
مطلوب، يعنى، تغيير جذري في العقلية والمثل وأيديولوجية الحياة قبل أي تغيير حقيقي في
حياتها وكيانها ومصيرها .. فهذا لا يسبق ذلك، ولكنه يترتب عليه ...
ثورة في الشخصية المصرية وعلى الشخصية المصرية ..
ذلك هو الشرط المسبق لتغيير شخصية مصر وكيان مصر ومستقبل مصر.
في حديثه عن الحبيب المصطفى، يقول أحمد شوقي في قصيدته العصماء «نهج البردة»:
وعلمنا بناء المجد حتى............ أخذنا إمرة الأرض اغتصابا
وما استعصى على قوم منال ............ إذا الإقدام كان لهم ركابا
وما نيل المطالب بالتمني ............. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
عزيزي القارئ
ذا كنت صاحب حق فناضل من أجله، إذ لا يضيع حق وراءه مطالب ..
واعلم أن الحق يحتاج إلى قوة لتصل إليه وتحميه وتحافظ عليه ..
أول مظاهر القوة أن تكون صادقا مع الله، حتى تكون صادقا مع نفسك وصادقا مع الآخرين ..
فذلك يكسبك مهابة واحتراما وقدرة على التأثير في الآخرين ..
ثاني مظاهر القوة الثبات على هذا الحق الذي تعتقده، فلا تتغير أو تتلون،
ولا تتنازل أو تتراجع، مهما طالك من أذى أو لحقك من إهانة ..
ثالث مظاهر القوة ألا تكون لك رغبة أو حاجة في منصب أو مال أو جاه أو أي لعاعة
من لعاعات الدنيا، حتى لا تباع أو تشترى أو تستأنس أو تروض أو تحتوى،
وإياك ونقاط ضعفك، إذ من خلالها يتسلل خصومك، فيضيع الحق الذي تبحث عنه
وتناضل من أجله.
رابع مظاهر القوة الاستعداد للتضحية، إذ ليس من السهل أن تصل إلى هدفك دون أن تفقد
شيئا في الطريق ..
قد يكلفك طلب الحق مالاً أو وقتاً أو جهداً أو حتى حرية ..
ومن الملاحظ أنه إذا كان الحق الذي تنشده عزيزا، كانت التضحية من أجله عظيمة ..
فهل نحن على استعداد؟
خامس مظاهر القوة الجماعة، فهذه تعينك وتشد من أزرك وتقف إلى جوارك
وتحمل همك وتشاركك مسيرتك..
قديما قالوا الرفيق قبل الطريق، وحبذا لو كان الرفيق من معدنك وجوهرك ..
ممن يحملون رؤوسهم على أكفهم، وأكفانهم على أيديهم.
لنفترض جدلا أنك لم تصل إلى الحق الذي تريده .. فهل خسرت شيئا؟
أقول: كلا .... يكفى أنك تضرب المثل والنموذج لغيرك، للأجيال التي سوف تأتى من بعدك ..
وحينما يرى الناس منك ذلك يقوى فيهم الأمل ويتعاظم لديهم الشعور بالعزة والقوة ..
إن الناس في حاجة إلى مثل عليا يسيرون على هداها وفى ركابها ..
ثم إن البشرية إذا خلت من هذه النماذج العليا فلا قيمة لها ..
وسوف تكون، في هذه الحالة، بشرية ضحلة، سطحية، تافهة ..
وبقدر ما تكون هذه النماذج موجودة، بقدر ما يعظم أمر التاريخ،
وفى النهاية ضع في حسبانك عزيزي المجاهد أنك تبنى تاريخا، تضيء مشعلا، تعبد طريقا.
قديما قالوا: «ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط»،
وأنت تعيش لنفسك وأهلك وأولادك وإخوانك وبنى وطنك ..
أنت مشروع أمل، مقترح بطل.
فقط اسأل نفسك:
هل أنا صاحب رسالة؟ ما هي؟ ما هو دوري؟ ما هي وسائلي وأدواتي؟
هل ذلك داخل إطار قدراتي وإمكاناتي؟ ...
أجب عن هذه الأسئلة بكل صراحة ووضوح، وكن واثقا من نفسك، ثم امض نحو هدفك
غير هياب ولا وجل..
لقد أثر في نفسي موقف الفتيات اللاتي تم ضربهن وسحلهن بسبب مطالبتهن بالحرية
وتعديل الدستور يوم السادس من أبريل.
لقد أثبتت الفتيات أنهن أفضل وأعظم من عشرات ومئات، بل آلاف من الرجال،
والمسألة ليست مرتبطة بالذكورة أو الأنوثة.. فقد قال الله تعالى: «من المؤمنين رجال.. »،
وفى السيرة، جفل حسان بن ثابت، وأقدمت صفية بنت عبد المطلب، أخت العباس
وعمة النبي صلى الله عليه وسلم.. إنها الهمم والعزائم، ليس إلا.