الإِصْطِلاحْ في خِطاب الشَّيخ النَّحْنَاحْ وأثرُه على الدّعوة والتّغيير
بقلم أ. خونا أحمد محمود
يُروى عن الصّحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قولُه ((إنّ لله عند كُلِّ بدْعةٍ كِيـْدَ بها الإسلامُ وليًّا من أوليائه يَذُبُّ عنه، ويَنْطِـقُ بعلامتها..)).
وقد أخرج الإمام محمّد بن وضاحٍ رحمه الله تعالى (ت287 هـ) هذا الأثر المبارك، تامًّا ومُسْنَدًا, فتأملْ- أنت أيُّها القارئ الكريم- إنْ شئتَ تَتِمَّتَه في محلّه من كتابه ((البدع والحوادث))،واعلمْ أنّني إنمّا تعمّدتُ أنْ يكون في مسْتَهَلِّ مقالي هذا وفي مُخْتتمه شيءٌ من هذه الآثار المباركة،جَريًا على مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى القائل ((ما قلَّت الآثار في قومٍ إلاَّ كَثُرَتْ فيهم الأهْواء..)).
ناطقٌ فصيحٌ ..وبدعة وذَبيح
والمتأمّلُ منّا اليومَ في هذا الأثر المسْعوديّ المباركِ،وفي مناقب شيخنا محفوظ النّحناح - داعية الجزائر ونبيلها – عليه رحمة الله،سُرعان ما سَيجدُ أن قلبَه قد امْتَلأَ حَسْرةً على ما فاتَهُ من حُسْنِ مُلازمته هذا الشّيخ، والاستفادة من دَقِيقِ عُلُومِه وفُهُومِهِ لحقائق شرْعة الإسلام وحركةِ الحياة.
وقد تنقّبَ رحمه الله بمناقب كثيرةٍ،شاركَه بعض دعاةُ الجزائر في شيءٍ منها،وانْفردَ هو عن كافّتِهم بطرازٍ عالٍ، من صُنوفٍ أخرى منها،ولعلّ مِنْ أظْهَر ما انْفَردَ به من تلكم المناقب؛ منطقُه الفصيحُ، وإفصاحُه الصَّريحُ بعلامات تلك ((البِدَع العُنْفِيَّة)) التي ظَهَرتْ في أوساط طوائفَ عريضةٍ من شباب الصَّحوة الإسلاميّة في الجزائر،وفي غيرها من بلاد الإسلام.
وما أَشدَّها من بِدَعٍ !..تلك البِدَعَُ..!؟ إذ أنّها قد أدْخَلَتْ بلادنا أتون حربٍ أهليّة، وفِتَنٍ دمويّة؛ حَصَدَتْ أرواحًا كثيرةً زكيّة،ودمرّت مكتسباتٍ جليلةً نَفْعيّة،وأذهَلَتْ عُقولاً،وحيّرتْ أحلامًا،ويتَّمَتْ أطفالاً،وأيَّمَتْ نِساءً،..وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
وقد بلغتْ مبْلغَ شِدَّتها عند شيخنا "المحفوظ" ،حينما اغتال البُغاةُ الغُلاةُ أكثر من خمسمائة شَهيدٍ، من رفقاء دربه،وأبناء حركته، الذين عقدوا معه " بيعةً شريفة " لخدمة الإسلام وأهله،والذين كان على رأسهم فضيلة الشّيخ الذَّبيح ذي القبرين محمّدٍ أبي سليماني عليه رحمة اللهْ،ولا حول ولا قوة إلاّ باللهْ.
وأنَا في بداية هذا المقال الذي أكتبُه اليوم،بمناسبة حلول الذكرى السّابعة لرحيل شيخنا "المحفوظ" ،أصرحُ بَدْيًّا أنّني لا ابْتغي في هذا المقال اسْتِفْصالاً للقول ولا بَسْطًا للكلام ،وإنمّا مُراديَّ الأساس أنْ أُلفت انتباه مُترجمينا المؤرخين،ودارسينا الأكادميّين إلى بعض المعاني والوجُوهْ،التي ستَدُلُّهُمُ إنْ هُم أمْعَنوا النّظر وأنْعموهْ؛أنّ خطاب الشّيخ المحفوظ رحمه الله تعالى كان على درجة عالية من التّميّز؛في مكوناته الاصطلاحيّة،وأبعاده التّربويّة والدعويّة، وتأثيراته على السَّاحة السَّياسيّة والفكريّة،وهو بذلك جديرٌ ببحثِ الدّراسة العلميّة.
وعليه سأطوِي الكلامَ هنا طيًّا مُكْتفيًّا برصْدِ مُصطلَحَينِ اثنينِ كانَا مُتلازمينِ في نُطق هذا الوليّ الصّالحْ والدّاعية النّاصحْ,الذي كان يرفعُ بمفادِهِما صوتَه عاليًّا، حين سكت النّاسُ– كلّ النّاس- وأصيبُوا بالذهول مع طلائع تلك الفتن.وكلُّ منْ كان يومئذٍ يُرقُب السّاحة،ويَرصدُ أحداثها،يشهدُ له بذلك،بلْ ويشهدُ بتنبؤاته المبكِّرة بمآلات تلك الفتن قبل طُروق حَيْصاتِها وبَيْصاتِها.
وهذا التّنبؤ منه يرحمه الله تعالى يُعدُّ منقبة أخرى من مناقبه التي لا أريد أن استطرد كثيرا بالتّعريج على ذكر فضلها، وحسبي ما جاء في الأثر(( إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْبَصَرَ النَّاقِدَ عِنْدَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ،والْعَقْلَ الْكَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَوَاتِ)).
أرجعُ بعد هذا الاستطراد لأقولَ : إنّ المصطلحَينِ اللذينِ أطلتُ نَفَسِي وكَلامي في ذكرها، هما مُصطلحا ((خِنْجِرِيسْتْ)) و((شَاقُورِيسْتْ))، وكأنّي بالشّيخ قدْ نحتهُما نحتًا لغويًّا بديعًا مُبْتكَرًا، تشهدُ له عند التّحقيق قواعد الصَّنْعة النَّحتيّة من فقه لغتنا العربيّة،إذ قد أدْمجَ في لفظهما بين اللّسان الدّارج الجزائريّ ،واللّسان الفرنساوي الأعجميّ، بحيث صار هذان اللفظان بعد شيوعهما سائغينِ ومُدْركَينِ عند كافّة الجزائريين بمختلف طبقاتهم، بل قد أصبح كلٌ منهما مشحونًا بمعانٍ كبيرة لم يكن لفظ ((الخِنْجَر)) ولا ((الشَّاقُور)) بمفرده قادرًا على تبلغيها قبل أن يطرأ عليه هذا النَّحت الظريف أو التَّنْسِيب اللَّطيف.
وقد حدّد رحمه الله تعالى بهذين المصطلحين المبتكرين ومدلوليهما الذكيّين، العلامات الكبرى، والمآلات البعيدة لتلك الفتن الجاهلة، وهو يُنكِرُ من خلالهما على "منكر" أولئك الذين جعلوا من ((الخنجر)) و((الشّاقور)) مسلكا دمويًّا،ومنهجا دعويًّا.
و((الشَّاقور)) لفظ عامِيٌّ - فيما أحسِبُ- يُطلق عندنا في المغرب الإسلاميّ على آلة حادّة تُستعمل لقطع اللّحم ونحوه، وكمْ كانتْ فراستُه صادقةً !؟،إذْ لم نلبُثْ إلاّ قليلاً حتى ظهر في بلادنا إعْمالٌ غريبٌ عجيبٌ لكِلاَ هاتين الآلتين !؛ فسالتْ بذلك دماءٌ، وقُطّعتْ رؤوس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم مرة أخرى،وإليه سبحانه المشتكى والمثوى.
رائدُ الوسطيّة..وصانعُ لفظها
وإذا ابتعدنا قليلاً الآنَ عن خطاب شيخنا الناطق بعلامات تلك الفتن، التي -بحمد لله - قد ولّتْ، بعدما حَلْتْ وأطلَّتْ، وحاولنا أن نقتربَ ولو قليلاً من بعض نماذج مكونات خطابه الواصف لبعض مواقفه السّياسيّة التي كان يحكُمها غالبًا منطقُ النّسبية وإعْمال الموازنات الحَرِجة، فإنّنا سنجده مثلا، حين قام في النّاس يصفُ لهم ويشرحُ موقفه الحكيم في بعض المنعرجات السّياسية التي اختلفتْ فيها مواقف الأحزاب إلى مواقف حديّة بين قائلين بضرورة ((المشاركة)) وقائلين بضرورة ((المقاطعة))وتميّز هو عنهم بموقف ثالثٍ وسطٍ، جمعَ بين محاسن تلك المواقف وتلافى سلبَها. وحين سأله بعض السّاسة ورجال الصِّحافة أن يقدم لهم بيانا دقيقا عن موقفه هذا، الذي انفرد به، بحيث أصبح - في الوقت نفسه-مع هؤلاء وضدّهم، ومع أولئك وضدّهم، فأجابَهم على بديهته والابتسامة تعلو محيّاه، نعم نحن: ((مُشَاطِعين)) أي نحن مشاركين لنعْرِف الأمر، ونجلو خبره، ثمّ مقاطعين بعد ذلك لما لا ينسجم مع مبادئنا وثوابتنا، وقد حدثَ له مثل هذا في موقفه من ندوة " سانت إجيديو" برُوما ، وفي غيرها.
وكذلك الأمر بالنّسبة لخياراته السّياسيّة والفكريّة، فقد كان بارعًا دائمًا في حسن وصفها والبرهنة على صوابها، ولعلَّ أقرب أمثلتها منّا اليوم، موقفُهُ عندما كَثُر جدلُ الإسلاميين والعلمانيين ولغطهم في وطننا العربي، حتى رَفع الأوائل شعارهم((نعم للشورى الإسلامية))ورفع الآخرون شعارا يابسًا مُعاندا مفاده((نعم للديمقراطية الغربيّة))، فقام هو مقاما وسطا مناديًا إلى ما أسماه ((الشُورَقراطية)) وهو تعبيرٌ جديدٌ مبتكرٌ لم يسبقه إليه أحدٌ -فيما نحسب-، وقد أعلن رحمه الله من خلال هذا اللفظ عن فدْلكَةٍ ذكيّة، ومُزاوجة شرعيّة بين هذين المفهومين، وهو يقصد من وراء ذلك دعوة الطرفين المتنازعين ليسْتَلْهمانِ من "الشورى الإسلاميّة" قِيَّمَها ومبادئها الأخلاقيّة، وليقْبِسانِ من " الديمقراطية الغربيّة " آلياتها وإجراءاتها الفنيّة.
وكلا اللفظين يمثّلان في زعمنا إضافةً نوعيّةً إلى((قاموسنا السّياسيّ))، بل إلى قاموسنا اللّغوي أيضًا، لأنّهما منحوتان لغويّا بشكلٍ سليمٍ، ويحملان دِلالاتٍ سياسيّة وتربوية ضخمة لمن تأملهما.
عَناوينُ الوعيّ وثنائيّاته
˜ هكذا إذن رأينا كيف كان أثرُ اصطلاحه رحمه الله تعالى في مجالات تعاطيه مع الواقع السّياسيّ والفكريّ بناءً وتغييرًا، وهكذا أيضًا مَضَى منهجه الخطابي في مجال الدعوة تربيةً وتوجيهًا.
ولعلّ المتأمّل في مقالاته المطبوعة والمعنونة بـ((معًا نحو الهدف)) أو بعنوان ((ثنائيات الوعي)) والتي كان الشّيخ يكْتُبها على عجلٍ في وقت صفائه اللّيلي لتلاميذه وأتباعه، سيفْغرُ فاه عجبًا من ضخامة الوعيّ الذي اخْتَزَنَتْهُ مصطلحاتُها ومركباتُها اللفظيّة، والتي أزعمُ أنّ القارئ لها، إذا ما قَصُرتْ به همّته وعَجَزَ عن تأمّل كلّ ما تضمّنته تلك المقالات من يوميات الوقائع وغيرها، واكتفى فقط بالإطلاع على عناوينها، فإنّه سيرجِعُ بمجرد ذلك الإطلاع بنِصْفِ المعنى المراد من مقالتها، وسَتَهَبُهُ تلك العناوين لوحدها وعيًّا كبيرًا.
وتأملْ مصْداقَ ذلك في عنوان مقالة ((الحركة الواعية بين الفجر الصّادق والفجر الكاذب)) الذي يشير من خلاله شيخنا "المحفوظ " إلى مستوى الاغترار والخديعة اللذيْن قد يحدثان لبعض الحركات الإسلامية بسبب انتصاراتٍ وقْتيّةٍ أو ظاهريّةٍ، أو بسبب هوامش من الحريات قد تُتيحها بعض الأنظمة الجبرية للإسلاميين وغيرهم، لغرض إحداث نوعٍ من التّوازنات الظّرفيّة، والتي قد يحسبها بعضهم انفتاحًا سياسيًّا، أو فتحا "حُديبيًّا" ويتّكِلُون على منافذها لإحداث تغييرهم المنشود، فيقع الاغترار وما هو أكبر من الاغترار...
أو تأملْ إنْ شئتَ عنوان مقالة ((الحركة الواعية واللائكيّة الحركيّة)) وهي مقالة مسلسلة من أربع حلقات، وقد انتقدَ فيها الشّيخ محفوظ الإسلاميّين الذين اسْتَنْكفُوا عن العمل السّياسيّ، وزعموا عدم جوازه، فوصف منهجهم بوصف ((اللائكيّة الحركيّة))، غمزًا لهم، بأنّهم باختيارهم هذا قد أصبحوا مُتماهين مع ألئك (اللائكيين) القائلين بفصل الدّين عن الدولة، وهذا المصطلح الذي أبدع الشيخ تركيبه اللفظي له دلالته البليغة، وقد ذكّرني بمركّب لفظيٍّ شبيهٍ "نطقَ "به قديما الشّيخ فتحي يَكَنْ رحمه الله تعالى على بعض الأمراض الدعويّة أعني قوله ((الإيدز الحركي )).
وهكذا كانت سائر عناوين مقالات ((ثنائيات الوعيّ)) مشحونةً بالمصطلحات والمعاني والرموز الضّخام، التي لا يكاد يفهمها في بعض الأحيان إلا النّوابغ من تلامذته وأبنائه الذين ساهمت هذه المقالات في حمايتهم من موجة الانحراف الفكريّ، وكانت لهم حصنا منيعا دونه، وإليك بعض تلك العناوين نسوقها لك كنماذج دالة على المقصود:
((الحركة الواعية بين الحناجر الصّادقة والخناجر الحالقة)) ، ((الحركة الواعية بين هدف التّغيير وصحّة المنهج)) ((الحركة الواعية بين القفز العالي والنّفس الطّويل)) ((الحركة الواعية بين المهدي المنتظر والمهدي القائم)) ((الحركة الواعية بين الظّل والشّمس))((الحركة الواعية بين ناسٍ وناسٍ))((الحركة الواعية بين الأصوليين والإستئصالين))((الحركة الواعية بين الواصلين والفاصلين))((الحركة الواعية بين المغتربين والغُرباء والغربان))((الحركة الواعية بين الانْسداد والانْشداد))((الحركة الواعية بين المنهج الدّعوي والمنهج الدّموي))((الحركة الواعية بين التّهويل والتّهوين))((الحركة الواعية بين الانفعال والانضباط))((الحركة الواعية بين الصّعود الوعر،والسقوط الحر)) ((الحركة الواعية وحالات التّبرم وحالات التّورم))((الحركة الواعية واغتيال المؤسسات )) ((الحركة الواعية والمسؤولية التاريخية..)).
قصتي مع خطبة الوداع
وقبل أن أختم هذا المقالْ، الذي طالَ واستطالْ، أودُ أن أرجع بذاكرتي قليلاً إلى آخر لقاءٍ جامعٍ جمعَ فيه الشّيخ المحفوظ أغلب "إطارات" حركته وكوادرها بمن فيهم أولئك الذين كانوا ينشطون خارج مؤسساتها التّنظيميّة، وقد أشرف عليه الشّيخ بنفسه يرحمه الله تعالى، وكان ذلك قُبيل وفاته بسنةٍ واحدةٍ تقريبًا، وأذكرُ أنّه كان يومها مريضًا يتوجّعُ طيلة ذاك اللقاء، وكان بين الفينة والأخرى عندما يطول النّقاش يقول لنا ويعنى نفسه " أشفقُوا على أخيكم فإنّه مريض" ويمدُّ ياءَ "مريـــض" مدًّا.
وقد كان من عادته رحمه الله على أن يعقد قبيل انعقاد مجلس الشورى الوطني لقاءً عاما للإطارات، توسيعًا للشّورى وتنضيجًا للآراء، وأذكرُ أنّ هذا اللّقاء الأخير حدّث بُعيدَ الانتخابات التّشريعيّة ((سنة 2002)) التي لم تُحقق فيها الحركة فوزًا انتخابيًا كبيرًا، وأذكرُ أنَّنا قد تشكّلنا يومها على ثلاثِ وُرَشٍ، وأنّني قد اخترتُ ورشة ((تقييم الخطاب الانتخابي)) التي كان يرأسها في ذلك اليوم المكدودْ، من يرأس "حركة الأمس" في هذا اليوم المشهودْ -ولن أنسى أبدًا - مقدارَ الهولِ الذي أصابني من كمية ونوعية الانتقاد الذي وجهه أصحابُه في هذه "الورشة المشئومة" للشّيخ رحمه الله تعالى، والزاعم أنّ خطابَه القديم منه والحديث، كان هو السّبب الرئيس في خسارتنا الانتخابيّة وغيرها من الانكسارات.
وأذكر أيضا أنَّ صاحبنا الذي ترأس "ورشة الأمس" سامحه الله تعالى تقدّم بقراءة تقريره بعدما دبَّجَه - هو- ومن أعانه عليه !؟ وشحنوه بألفاظ ومعانٍ فَهِمَ من خلالها شيخنا "المحفوظ" أنّه هو المتّهم الأوّل، وأنّ خطابَه هو سببُ كلّ تلك الخسائر الموهومة، فلم نبرحْ إلاّ يسيرًا حتى قام الشّيخ بيننا خطيبًا وباكيًّا، وتكلّم بلَهْجةٍ عاميّةٍ جزائرية غير مألوفة من مثله فقال ((صَآرْ أنَا هو المشكِلْ !؟)) أي ((إذن أنا هو السّبب !؟)) ثمّ خطبَ فينا لمدة خمس عشرة دقيقة تقريبًا، بقول بليغ هو في زعمي من أنفس ما سمعت من خُطبَه، وقد وعَظَنا فيه بمعانٍ كثيرة لها نسبٌ مع أيّام البدايات، أحَسَّ أننا قد أُنسيناها، ثمّ عَمِدَ على توضيح مفهومي الفوز والخسارة في هذه ((الجماعة)) التي ينتمي إليها، ثمّ عرّج بنا على تجارب عالميّة كثيرة تَعِظُ كلُّها بعدم الاغترار "بالأرقام الانتخابيّة" وبإقبال الجماهير والحشود الغوغائية دون تربية أو تكوين، ثمّ ختم كلمته بصرامة القائد وحزمه بقولٍ قاطعٍ مفاده: أنّهُ مؤتمنٌ على ((منهج))ولن يُسْلِمَه لاستعجالات بعضنا، ولن يُخالف مقتضياته بإجماعاتنا ولو بقي وحده، ثمّ انفلتَ عنّا، وقال وهو مُنْصرفٌ:من أراد أن يُجدّد ((عهده)) مع المنهج فليلحقْ بيَّ فإنّني في الغرفة رقم كذا....الخ.
والآن استسمحُك -أيّها القارئ الكريم- لأقطع عنك هذا الإرسال أو الاسترسال، الذاكر لتفاصيل ما حدث في ذلك اليوم، ولك –أيّها الأخُ-أن تستكمل خبره بحثًا وتحريًّا ممن حضر يومئذ من الثّقات، ولكنْ دعني أبوحُ لك بشيء آخر له تعلّقٌ بهذا اللقاء، وتعلقٌ وطيدٌ بموضوع هذه المقالة ومقترحاتها.
إذ أنّني أذكرُني حين كنتُ في تلك "الورشة المعيبةْ، وسمعتُ موجةَ الانتقاد فيها والغيبةْ، قمتُ -والله تعالى عليمٌ بما أقولْ- بطلبِ المشاركة في النّقاش والقولْ، وبالاستعاذةٍ تشجّعْتُ فيها على المَخاوفِ، وصَرَّحتُ برأييَّ المُخالفِ، واقترحتُ مشروعا عمليًّا، مفادُ فكرته:أنْ نُنْشِأَ في قابل الأيام فريقا بحثيًّا، يعْكِفُ على وضع قاموسٍ يتولّى جمْعَ مصطلحاتنا السّياسيّة وشرحَها، وزعمتُ أنّ جرائدنا وبياناتنا..تختزنُ صرْحَها، وأن السّياسيين أصبحوا يَقْبِسُون من لفظها، ولا يذكرون فضل أهلها، وزعمتُ أيضًا أنّ هذا المشروع إذا وُفِقْنا لإنجازِهْ، فسيؤرخُ لحقائق حِراكنا ومجازِهْ،..وكنتُ يومئذ شاعرًا حالمًا، ولا أزال كذلك، وسأظلّ حتى يتحقّقَ هذا المشروع البّحثي، الذي أضع فكرته اليوم بين همم أصاحب العزائم من إخواننا الدارسين.
وفي إشارته مَعْنَى عبارته
ذكر الذّهبي في سيّره، عند ترجمة الشّيخ القدوة عبد القادر الجيْلانيّ رحمه الله تعالى، قولَه (( قال السّمعاني:كان عبد القادر من أهل جيلان إمام الحنابلة، وشيخهم في عصره، فقيهٌ، صالحٌ،دَيِّنٌ، خيِّرٌ، كثيرُ الذّكر، دائمُ الفكر، سريعُ الدّمعة،...مَضَيْنَا لزيارته، فخرج وقعد بين أصحابه، وختموا القرآن، فألقى درسًا ما فهمتُ منه شيئًا، وأعجبُ منْ ذا أنَّ أصحابَه قاموا وأعادوا الدّرس، فلعلَّهم فهمُوا لإلْفِهِم بكلامه وعبارته)).
وقال أيضا: (( قال ابن النّجار: سمعتُ عبد العزيز بن عبدالملك الشّيباني، سمعتُ الحافظ عبد الغني، سمعتُ أبا محمد بن الخشّاب النّحوي يقول: كنتُ وأنا شابٌّ أقرأ النّحو، وأسمعُ النّاس يَصِفُون حُسْنَ كلام الشّيخ عبد القادر، فكنتُ أريد أن أسمعه ولا يَتَّسعُ وقتي، فاتَّفَقَ أنّي حضرتُ يومًا مجلسه، فلمّا تكلّم لم أستحسنْ كلامَه، ولم أفْهَمْهُ، وقلتُ في نفسي: ضاعَ اليومُ منّي.فالْتَفَتَ إلى ناحيتي، وقال:ويلكَ ! تُفضِّلُ النَّحو على مجالس الذكر، وتختارُ ذلك ؟! اصْحَبْنَا نُصَّيِّرْكَ سيبويه)).
وأقول أنا - ولا قول لي- : لقد كان كلام شيخنا "المحفوظ" ، في بعض تعابيره لأتباعه من جنس هذا الكلام الذي حُكيَّ عن الشّيخ الجيلاني، وقد غمزنا بعضُ الغامزين الذين لم يألفُوا كلام شيخنا، ولم يخالطوا أنفاسه الشّريفة، مسلكنا في التعامل مع عباراته وإشاراته، وزعموا أن كلامه المرموز غير مفهوم، وأنّنا ندّعي حسن الفهم عنه، وما فقهوا أنّ أحوالنا معه محكومة بوشائج (الشيخ مع مريده) و(القائد مع جنده) و(السياسي مع كوادره)...وثمّة ظواهر أخرى من الكلام يكون عليها بعض الكُّمَّل الصَّادقين من الرجال الذين يُبَلِّغُهُم الله تعالى مقام ((الولاية)) ((بصدق اللّهجة)) وبموجبات فُيوض سحابة ((وألزمهم كلمة التقوى))، فترى الواحدَ منهم قرآنيَّ الاقتباس، عذبَ العبارة، رشيقَ الإشارة، يأْسِرُ لفظُه بعض الذائقين، ويحُجب عنه آخرون، تمامًا كما حدث لتلامذة الجيلاني معه، وهي ظاهرة نفسيّة خارجةٌ عن الوصف ويعسُرُ التّعبير عنها، وربما أشار قديما إلى بعض معناها الشاعر اِبنِ حَيّوس، حين قال:
أبدتْ عبارتُه معنَى إرادته *** وفي إشارتِه معنًى لمنْ فَهِمَا
وفي الختام حسبنا في بيان بعض أسرار هذا "التّميُّز التّعبيري" عند شيخِنا محفوظ، أن نورد ما كتبه في تأتبينه شيخُنا محمّد أحمد الراشد حفظه الله تعالى في مقاله ((الوعي النّسبي في خطط محفوظ))، فبعد استعراضه لجملٍ من مناقبه وإضافاته الإيجابية قال ما نصه: (( وهذا الإيجابُ: يزينُه إتقانُ اللغة العربية وتدريسُه لها، وفي ذلك إيماءٌ لسبب عامل النبُّل في شخصه، فإنَّ إجادةَ اللغة تَمنحُ مَهابةً، ومن ذكرياتي معه أنّنا تداولنا يومًا خبر الجيم المخفّفة المعطّشة فأفادني بفوائد، رجعتُ بها إلى تحليقات طالبِ العلم حين يلينُ له معلمُه فيمنحه شيئًا مما حباه الله به، وشعرتُ ساعةً كأنَّه أستاذي. فكلُّ ذلك من امتيازات ومناقب محفوظ، الباذل الصامت الفصيح، عليه رحمة الله)).