+
----
-
د. محمد حبيب - بتاريخ: 2010-02-07
هو الإمام المجدد حسن البنا الذي أشعل في قلبي وهج الإيمان ، وأنار عقلي وبصيرتي بالفهم الدقيق والعميق للإسلام ، ووضعني على طريق الهداية والاستقامة والرشاد ..
أشعر أن ولادتي بدأت مع فكر الإمام البنا ، وقبل ذلك لم تكن هناك حياة بالمعنى الحقيقي للحياة ..كانت عدما ، بلا هدف ولا رسالة ولا مضمون ولا روح ..
مع الإمام انتقلت إلى العالم الرحب الفسيح ..استطعت أن أطوي صفحة ضيقة وفارغة من حياتي ، لأبدأ صفحات أخرى جديدة ، شديدة الاتساع وغاية في العمق ، حياة لها قيمة ومعنى ووزن ..
لم يكن الإمام البنا مجرد عالم أو فقيه أو داعية كبقية الدعاة ..كان روحا وثابة ووجدانا متألقا ومشاعر فياضة تتسلل في رقة إلى عقلك وقلبك ووجدانك ..كان وهجا يفتح لك آفاق الدنيا بسهولة ويسر ،ويأخذ بيدك في رفق وحنان وعزم وقوة ليدلك على البداية الحقيقية للسيادة والسعادة
من أنت ؟
هذا سؤال وجهه صحفي غربي للإمام البنا ، طالبا إياه أن يعرف نفسه .. فماذا كان جوابه ؟ قال رحمه الله :"أنا سائح يطلب الحقيقة ، وإنسان يبحث عن مدلول الإنسانية بين الناس ، ومواطن ينشد لوطنه الكرامة والحرية والاستقرار والحياة الطيبة في ظل الإسلام الحنيف ،أنا متجرد أدرك سرّ وجوده ، فنادى Sadإن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له ، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين .. هذا أنا ، فمن أنت ؟ )
كلمات سهلة بسيطة ، لكنها عميقة شديدة التركيز ، تعبر بحق وصدق ووضوح عن فكر الإمام ، حياته ، وجوده ، دوره ، رسالته ، هدفه ... تعالوا بنا نستعرض معا مفردات ما قاله الإمام : سائح ، إنسان ، مواطن ، متجرد .
الإمام السائح
السائح له معنى ومغزى ودلالة لدى الصحفي القادم من بعيد ، من بلاد تعتبر السياحة والضرب في الأرض والتجوال في أنحاء المعمورة ، وبخاصة إلى تلك البلدان ذات التاريخ البعيد ، جزءا من ثقافتها وعلومها ومعارفها وتكوينها النفسي والعقلي والوجداني ..هي الكلمة التي يفهما ويعيها ويدركها هذا الصحفي الباحث دون لبس أوغموض أو فلسفة أو تعقيد ..والإمام حين يتكلم عن هذا المعنى هو يترجم حقيقة يجب أن يعيها المسلمون قبل غيرهم تنفيذا واستجابة لأمر الحق جل وعلا..
- { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }" (20)العنكبوت"
- {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }"(15) الملك"
- {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ }" (42)الروم "
هذا السائح – البنا – " يطلب " شيئا عزيزا غاليا مهما ..هو يطلب " الحقيقة " ، وكأنما أراد أن يلفت انتباه الرجل إلى جوهر الأشياء ..إلى أصل الوجود ..
الحقيقة ..
لم يتحدث الإمام عن شيء فرعي أو جزئي أو شكلي أو هامشي ..لم يدخل في تفريعات أو تفصيلات تبعده عن أهم معنى يجب أن يشغل بال أي إنسان ..هذا هو الإمام البنا ..ينفذ إلى الهدف الواضح أمامه من أقرب طريق ..الهدف الذي لا يغيب عن باله أو ذاكرته أو خياله ..ولعل الإمام أراد أن يستثير عقل الرجل وخياله بهذه الكلمة ( الحقيقة ) ..ولعل الرجل سأل نفسه : ما الذي قصده الإمام البنا بالحقيقة ؟ ما هي ؟ وما طبيعتها .. حدودها ..ملامحها ؟ ..وهل هي نسبية أم مطلقة ؟.. وما أثرها في حياة الفرد شرقيا كان أو غربيا؟ ..مسلما كان أو غير مسلم ؟.. وهل لدى الغرب حقيقة كما هي عند الإمام ؟.. أم أن هناك تباينا واختلافا بين الحقيقة هنا والحقيقة هناك ؟ وهل لدينا في الغرب من يبحث عنها أو ينشدها أم أن الناس عندنا يلهون أو يلهثون أو يعبثون وراء سراب خادع ووهم كاذب ليس له وجود إلا في خيالاتهم المريضة ؟
لعل الرجل استعرض في خياله سريعا تلك الأجواء الفلسفية الوجودية والعبثية التي تعيش فيها شعوب بلاده وتترك آثارها المدمرة على أعداد كبيرة من الناس حيث لا دور ولا رسالة ولا هدف ...
الإمام الإنسان
ثم تعالوا بنا نقف عند قوله " وإنسان يبحث عن مدلول الإنسانية بين الناس "
هو يؤكد على أنه إنسان قبل أي شئ ..ليس ملاكا منزها ، ولا صاحب عصمة أو قداسة ..هو فقط إنسان ،جسد وروح ..نعم قدمه تدب على الأرض ، لكن هامته تعانق السحاب ..فيه تلك النفحة العلوية ، تلك اللطيفة الربانية ، التي تحلق به عاليا ، بعيدا عن أسْر المادة وقيود الشهوات وجواذب الطين ..هذه اللطيفة عنده هي الأصل ، والقائد ،والمتبوع ..أما الجسد فهو الفرع ، والجندي ، والتابع ..
الإمام البنا الإنسان " يبحث " في هذا الإطار عن المعنى الحقيقي للإنسانية بكل ما تحمله وتدل عليه من قيم الحرية والعزة والكرامة والشهامة والرجولة والبطولة والبذل والتضحية والعطاء والفداء ..الإنسانية الحقيقية التي تتسامى فوق الصغائر وتستعلى على الدنايا وتنأى بنفسها عن السفاسف..نعم للجسد حاجاته ومتطلباته ، التي لابد من استيفائها ، لكن دون مساس بقيم الروح العليا ، وإلا انحرفت الإنسانية عن مكانتها الرفيعة وأهدافها النبيلة ..إن الإمام البنا لم يكن باحثا عاديا ، لكنه كان باحثا مدققا لا يهدأ له بال ولا يغمض له جفن ..كان منقبا عن وجوه الخير داخل الإنسان – أي إنسان – بغض النظر عن عقيدته أو مذهبه أو جنسيته ، وفي أي مكان قريبا كان أو بعيدا ، مستلهما في ذلك قول الحق جل وعلا لنبيه – صلى الله عليه وسلم – {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}( من الآية 158 سورة الأعراف )..
كان الإمام منفتحا على الدنيا كلها ، راجيا من الله تعالى أن يشرح به صدورا مغلقة أويفتح على يديه قلوبا غلفا ..لأنه صاحب رسالة يفهم مضمونها بدقة وشمول ، ويعلم ما يتطلبه من جهد وصبر وإيمان مهما كانت وعورة الطريق وصعوبة المرتقى يفعل ذلك بمنهجية وأدوات ووسائل لا تتصادم أو تتجاوز السنن الربانية
لقد رأينا الإنسان في الغرب – رغم تقدمه وإنجازاته الضخمة – يهوى إلى حمأة الرذيلة ، يتمرغ في الشهوات كما الحيوان في الغابة ، يسفك الدم ويخرب العمران من أجل أن يبسط هيمنته ونفوذه ويفرض قيمه ، هولا يرى إلا نفسه ولا يعشق إلا ذاته ، لا يجد غضاضة في استباحة قيم أو حقوق أو مقدسات الآخرين ، يعتمد في ذلك على الفلسفة الدارونية " البقاء للأقوى " ..نحن إذن أمام إنسان فقد أهليته وتوازنه ولا يصلح بحال لقيادة البشرية ..إنسان يضرب في تيه ويدور في فراغ ..يبذر بذور الشر في كل مكان..إنسان أحال البشرية إلى صراعات وفتن ونار وخراب ودمار ..فأين ذلك كله من الإنسانية التي يبحث عنها الإمام؟
وفي النهاية يقرر الإمام هذه الحقيقة الكبرى وهي أنه جزء مرتبط أو منتم للإنسانية ، غير منفك أو منعزل عنها ، منذ خلق الله آدم ، وهو من ثم لن يألو جهدا أو يدخر وسعا في سبيل إعادتها إلى صوابها ورشدها ، وبالتالي أمنها وسلامتها واستقرارها وسعادتها ، فأمنه من أمنها ، وسعادته من سعادتها ، وأي خلل فيها يلقي بظلاله السلبية على كل إنسان في أي مكان ..
إن أصحاب الضمائر الحية والقلوب النقية التقية يشقيها أن ترى الإنسانية في شقاء ، ويسعدها أن ترى الإنسانية وهي تصعد في مدارج الرقي ..وهكذا كان الإمام ، وتلك هي نظرته وهدفه الذي يعمل له ويسعى إليه فأين أنت أيها الصحفي الهمام؟