الهمة العالية
01-08-2011
بقلم: أحمد أحمد جاد
الحمد لله وبعد، فإن الهم مبدأ الإرادة والهمة نهايتها، وقيمة المرء همته ومطلبه وما يهتم به، والهمة العالية هي التي تتعلق بالحق طلبًا صادقًا خالصًا.. لا يلتفت صاحبها إلى غيرها ولا يتأخر عن الفوز بها، وهي التي تحرك الطاقة الكامنة في الإنسان لتحقيق المطالب العالية، وهي هدف الأنبياء والمرسلين والعلماء الربانيين ومن على نهجهم، والهمة العالية تشمل الهمة في العبادات والجهاد والمسارعة إلى الخيرات، وجميع الأعمال التي أمرنا بها الشارع الحكيم، وكان الصحابة يسألون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن معالي الأمور، وأفضل الأعمال وأحبها إلى الله، وعن أقرب الأعمال التي تدخلهم الجنة، كما كانوا يسألونه عن الأعمال السيئة حتى يجتنبوها.
قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وأكثر الناس لا يهتمون بالمطالب العالية، إنما ينشغلون باللهو واللعب وسفاسف الأمور، وذلك حين تُقاس بالاهتمامات التي يثيرها الإسلام في النفس، إن المسلم صاحب المطالب العالية ينظر إلى اهتمامات أهل الدنيا وانشغالهم بها وانغماسهم فيها وتعظيمهم لها، وقضاء أوقاتهم فيها، كما ينظر إلى الأطفال المشغولين بعرائس الحلوى وبالدُّمَى الميتة.. الناس في خوض يلعبون!!، وإن الإسلام يرفع اهتمامات البشر بقدر ما يرفع من تصورهم للوجود كله، إن حياة المسلم حياة كبيرة عالية؛ لأنها منوطة بوظيفة ضخمة هي أعز من أن يقضيها في عبث ولهو.
قال سيد قطب في مقدمة الظلال: "عشت في ظلال القرآن أنظر من علوٍ إلى الجاهلية التي تموج في الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة.. إنها اهتمامات الأطفال، وتصورات الأطفال، وعبث الأطفال".. وأقول: إنها سفاسف الأمور التي يكرهها الله، ففي الحديث: "إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفسافها" (الجامع الصغير: 1889، حسن).
وأكثر الناس يعيشون على الأماني الباطلة، وهي أموال المفاليس، بها يقطعون أوقاتهم ويتلذذون بها، فهم في غفلة، وفي الحديث "الكَيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني" (رواه أحمد: 4/124، والترمذي: 2459 حسن، وابن ماجه: 4260)، ولا يرضى بالأماني دون الحقائق إلا ذوو النفوس الدنيئة الساقطة، وأمنية الرجل تدل على علو همته (مختصر المدارج ص 287)، إن الأمم الناهضة لا تعيش على الآمال والأماني الكاذبة، ولكن تُعِدُّ نفسها لكفاح طويل، من جهاد وتضحية، وفي الحديث "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز.." (مسلم: 2664، وابن ماجه: 4168).
الهمة للدنيا والهمة للدنيا والآخرة: فالناس فريقان: فريق همته لنفسه يحرص على المأكل والمشرب وجمع المال والزينة، تركوا الآخرة وصدوا عن سبيل الله، فهم كالأنعام، وهم في ضلال ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3)﴾ (إبراهيم).
فالدنيا كلها متاع قليل زائل وينتهي، ثم تأتي الآخرة والحساب والجزاء، وفريق آخر أعطى الدنيا حجمها ولم تشغله عن الآخرة والسعي لها، وأدرك أن عند الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، والفريقان يجمعهما حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعُطِي رضي، وإن لم يُعطَ سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لا يؤذن له، وإن شفع لم يشفع" (البخاري: 2887، وابن ماجه: 4136 ومسلم 1889 نحوه) فالأول ينشغل بنفسه لحرصه على هواه، تعس: أي أن يعثر فلا يفيق من عثرته، وانتكس: عاوده المرض، وإذا شيك بشوكة لا يجد من يخرجها له فيصير عاجزًا عن الحركة، وطوبى: إشارة إلى الحث على العمل، إن كان في الحراسة فهو في أمر عظيم، إن استأذن وإن شفع، أي: لا يهتم به. ومعنى الحديث: لا يهتم بالرياسة والشهرة وزينة الدنيا.
إن صاحب الهمة العالية لا يعيش لنفسه، فقد نظر وتأمل وعرف ربه وأدرك قيمة الآخرة، ثم نظر إلى حال الناس وبعدهم عن ربهم، وقدر المسئولية، فهو يجاهد ولا يهدأ.. يعمل لإنقاذ الناس من النار، فهذا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: "إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل الرجل يزعُهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقتحمون فيها" (البخاري: رقاق: 6483 ومسلم 2284).
فالجاهل كالفَرَاش يلقي بنفسه في النار، يزعهن: يدفعهن، أي: يمنعهم من الوقوع في المعاصي التي هي سبب لدخول النار.. فالناس تحرص على اللذات وتندفع إليها، ومن استوقد النار كان هدفه الانتفاع بها من الاستضاءة والاستدفاء وغير ذلك، ولكن الفراش جعله سببًا لهلاكها، فكذلك كان القصد اهتداء الأمة واجتنابها سبب هلاكها.
فصاحب الهمة العالية يعمل بالليل والنهار لإنقاذ العباد والبلاد، فهذا صلاح الدين كان يجاهد ولا يهدأ حتى حرر الأقصى من أيدي المعتدين.. فمن للأقصى اليوم؟ ومن لتوحيد كلمة المسلمين اليوم؟ ومن لعودة الأمة إلى عزتها وكرامتها؟ ويقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبًا، والله المستعان، والحمد لله رب العالمين.