اقتداء الأشكال و اقتداء الأفعال الناس مواهب و مكاسب ، فالمواهب هي ما وهب الله عز وجل ،وهو العليم الخبير لكل واحد، والمكاسب هي ما يكسبه كل امرئ من حسن القول أو سوئه،
و من حسن الفعل أو سيئه.و الناس مجبولون على نشدان الكمال و التطلع إلى ما يرونه مثلا أعلى يقتدون به في سلوكهم ، ويتأسون به في تصرفاتهم ،و هم
محكمون في هذا النشدان و هذا التطلع إما بعقل رشيد، أو عاطفة جياشة،أو هوى جامح ، فمنهم من يخضع في ذلك للعقل فقط، ومنهم من يصنع ميزانا
دقيقا من العقل والعاطفة يسدد به و يقارب في وزن الناس و تقديرهم .
من أجل ذلك كان للناس أمثلة عليا متنوعة ، لأن عقولهم متفاوتة ، و أهواءهم شتى .وهذا ما جعل علماء النفس يلاحظون أن المثل الأعلى للناس هو أمر نسبي ، فقد يعتبر شخص إنسانا مثلا أعلى و هو في الدرك الأسفل، كهؤلاء الممثلين المنحلين و السياسيين الظالمين، و الأغنياء الفاسدين و الكتاب الفاسقين
و العلماء المنافقين ، و قد يزدري شخص انسانا و هو ممن قيل فيهم ، إن لله رجالا لو أقسموا عليه لأبرهم ، كهؤلاء المؤمنين الصادقين الذين قد لا يجدون
لقمة أو كسوة .
لوحكم الناس جميعا عقولهم ، وتحكموافي عواطفهم لاهتدوا جميعاً إلى مثل أعلى وحيد ، وأجمعوا على أن ذلك المثل الأعلى هو محمدـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه الإنسان الأكمل ، والنموذج الأمثل ، وهذا ماتوصل إليه ـ بعد دراسة طويلة وبحث عميق ـ العالم الأمريكي ، غير المسلم ـ مايكل هارث ـ وسجله في كتابه المسمى" المائة الأوائل" وما أوصل مايكل هارث إلى هذه النتيجة إلا عقله الرشيد ، فاستيقن أن محمدا . عليه الصلاة والسلام ـ هو أعظم الخلق ، ولو لم تجحد نفسه ، ولم يستحوذ عليه الشيطان لآمن بمحمد ،صلى الله عليه وسلم ،وصدقه ـ ومن قبل مايكل هارث ، كان الإمام محمد البشير الإبراهيمي ينبه إلى أن دراسة السيرة النبوية دراسة عقلية توقف صاحبها على ساحل بحر لجي من العبر و المثلات ، و كذلك فعل عباس محمود العقاد ، و بعض دارسي السيرة النبوية .
فتبارك الله الذي جعل في عبده محمد عليه الصلاة و السلام من الكمالات ما تفرق في غيره من الناس أغنياء و فقراء ، أميين و علماء ، بسطاء و أمراء
فلم تسعى قدم و لم تدفع رحم بمثل محمد صلى الله عليه و سلم ، فقد كان رجل كبيرا راشدا و هو طفل صغير ، وكان"طفلا" وديعا و هو رجل كامل الرجولة ، كان زوجا كريما و أبا رحيما ، و خصما شريفا و مقاتلا نبيلا ، وسياسيا حكيما ، لم تطغه المادة عندما أغناه الله ، و لم يسفل عندما عضه الفقر
و لم يستبد في السلطة عندما مكن له الله في الأرض ، و أمكنه من الناس ، إنتصر فلم تبطره نشوة النصر ، و انهزم فلم يخز و لم يذل ، تواضع في عزة
واعتز في تواضع ، سما من غير استعلاء ،و علا من غير طغيان ، جاهد بالصدق ، وتمسك بالحق و جادل بالمنطق ، كان أغنى الناس و هو يربط الحجر الصلد على بطنه الشريف ،و كان أكثر الناس حمدا لله على أنعمه وهو يتناول ألذ ما خلق الله ، وما أبرع الإمام عبد الحميد بن باديس و هو يرسل ندائه
" إلى محمد أيتها الإنسانية " (1) ، لأنه مثل الله الأعلى للإنسان الكامل (2)، كما يقول أحمد حسن الزيات " مفخرة الإنسانية " (3) .
من أجل ذلك وجه الله عز وجل إلى الإقتداء و الإئتساء بهذا الرسول الأعظم فقال : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ،
لقد انقسم المسلمون في اقتدائهم و تأسيهم برسول الله عليه الصلاة و السلام فريقين : فريقا يجتهدون في الإهتداء بأخلاق رسول الله صلى الله عليه و سلم
من صدق و إخلاص و أمانة وإتقان وإحسان و كرم و نظافة وبشاشة و سماحة و رفق. و فريقا يعنى في الإقتداء برسول الله عليه الصلاة والسلام إلا
ببعض الجوانب الظاهرية ، و يحصرون تلك المظاهر في قمصان ترتدى و عمائم تغطي الرؤوس و أعواد سواك ... ، لا أحد يعترض على هؤلاء الإخوة
فيما اختاروه لإنفسهم ، إنما الإعتراض هو في جعلهم هذه الأمور ميزة يمتازون بها على غيرهم من إخوانهم ، حتى أن الأمر وصل بأحد هؤلاء - كما
بلغني _ أنه يوصي الفتيات برفض من يتقدم لخطبتهن إذا كان من الذين يرتدون السراويل ...
إن كثيرا من هؤلاء الإخوة يقصرون في الأعمال ، و يسيؤن في الأقول ، و يزكون أنفسهم ، و تبحث ، عن أحدهم في ندوة للجدال عن دين الله فلا تجد منهم أحدا ، و تبحث عن أحدهم في ملتقى لمواجهة خصوم الإسلام فلا تقع عيناك على أحد منهم ، ولكنك إذا دخلت إلى بعض المساجد تراهم غارقين في الخوض في جزئيات فقهية ليست من لب الإسلام و جوهره ، و يشمرون عن السواعد و السوق لمواجهة إخوانهم الذين لا يرون تلك الجزئيات مما تنفق
فيه الأوقات .
شخصان أعرفهما جيدا من هؤلاء الناس ، لم يتركا أحدا من إخواننا المؤمنين لم يبسطا فيه لسانيهما السليطين بسوء ، وأعرف في الوقت نفسه أن زوجتيهما ذاقتا
منهما - قبل طلاقيهما - أطنانا من الحنظل ، ولم تذوقا قطرة من العسل ، حتى إن إحداهما فرت من زوجها في منتصف اليل بلباس النوم ، لأنه ضربها
ضرب الكلاب ، وصك أذنيها ببذئ الخطاب بالرغم من أنه كان يظن ان مفاتيح الجنة بيده ، يدخل إليها من يشاء ويغلق أبوابها في وجه من يريد .
ثم ما بال هؤلاء الإخوان يحرصون على بعض الأشكال و يهملون بعضها ، اذ لم نعرف أحدا منهم ينام على الحصير ، و يأكل الشعير ، أو يركب البعير -
كما كان يفعل رسول الله –
بل وجدنا أكثرهم يؤثرون الفراش الوثير ، و أكل الثريد ، و ركوب ما يطير .
كما نرى بعضهم يلبس القميص المصنوع في التايوان ، و فوقه معطف من صنع الطليان ، وفي أرجلهم (( أديداس )) من عمل الأمريكان ،وعلى عينيه(( ريبان )) . هل في هؤلاء الإخوة من يخسف نعله ، و يرقع ثوبه ، و يكون في مهنة أهله ، كما كان يفعل حبيبنا – صلى الله عليه و سلم – الذي ( خلق و بعث ليكون درسا عمليا في حل المشكلات الإجتماعية ) كما يقول مصطفى صادق الرافعي (4) .
إن هؤلاء الإخوان ينطبق عليهم قول الشاعر :
حاكتك (*) في صور الأعمال تتبعها
وما اقتدت بك في عزم و لا همم
ولا كمال ، ولا صدق ، ولا خلق
ولا اجتهاد ، ولا عز ، ولا شمم يا إخوتنا في الله إنه لا أجمل من الإسلام و لاأقوم ، و إنه لا أنبل من محمد ولا أعظم فلماذا نقزمهما إلى هذا الحد ، و نحصرهما في هذا الشكل ؟
الهوامش 1-انظر مجالس التذكير من كلام البشير النذير
2- أحمد حسن الزيات : وحي الرسالة 1341
3- عنوان كتاب للمؤلف التركي محمد فتح كولن
4- من وحي القلم 452
(*) الفعل يعود على الأمة الإسلامية و الضمير على الرسول –صلى الله عليه وسلم
المرجع: جريدة : الشروق ليوم الخميس 2005/04/21
صاحب المقال : الأستاذ محمد الهادي الحسني