د. محمد عمارة
في تاريخ الشعب المصري فترات من "الظلم" ومن "المقاومة" لهذا الظلم تستحق الدراسة الواعية، واستخلاص العبر من ذلك التاريخ.
فالدولة الفاطمية (297- 567هـ/ 909- 1171م) على سبيل المثال رغم إنجازاتها الحضارية، كانت شيعية باطنية إسماعيلية غلاة تحكم شعبًا سنيًّا رافضًا لمذهبيتها؛ ولذلك ظلت الهوة واسعة بين حكامها وبين المحكومين طوال تاريخها.. فعندما لا يكون الحكام ممثلين للشعب يستمدون منه الشرعية والرضا، فإما أن يستندوا إلى "الأجنبي"، وإما أن يستندوا إلى "الأقليات"، ولم يكن استناد الفاطميين إلى "الأجانب" الصليبيين، وإنما كان استنادهم إلى النصارى -غير الأرثوذكس- وإلى اليهود الذين استقووا بسلطة الإدارة والمال، وأوقعوا شتى أنواع المظالم بالأغلبية المسلمة السنية من السكان.
وقد كان عهد الخليفة الفاطمي "العزيز بالله" (344- 386هـ/ 955- 996م) نموذجًا لاستعلاء هذه الأقليات؛ فلقد كانت أم العزيز نصرانية ملكانية وذات نفوذ طاغ في البلاط الفاطمي، وكان لها إخوان من البطاركة الملكانيين -أي غير الأرثوذكس- عيَّن الخليفة أوَّلهما "أرسانيوس" مطرانًا للقاهرة (375هـ/ 985م) ثم بطريركًا للإسكندرية (390هـ/ 1000م)، كما عين الثاني "أريسطيس" بطريركًا لبيت المقدس (375هـ/ 985م).
ولهذا النفوذ والاستعلاء النصراني تولى الوزارة في عهد العزيز بالله من النصارى "عيسى بن نسطورس"، و"فهد بن إبراهيم" الذي لقب بالرئيس، و"منصور بن عبدون" الذي لقب بالكافي، و"زرعة بن نسطورس" الذي لقب بالشافي، و"يعقوب بن كلس" ذي الأصل اليهودي، وتولى وزارة الشام اليهودي "منشا إبراهيم القزاز".
أما الشعب المسلم الذي أوقع النصارى واليهودية في صفوفه المظالم وألوان الإذلال، فإنه لم يستسلم وإنما قاوم هذا الجور بألوان كثيرة، وأحيانًا قاوم بالمظاهرات التي كانت تهتف لمعاوية بن أبي سفيان (20 ق هـ- 60هـ/ 603- 680م) نكاية في الشيعة فتقول: "معاوية خال المؤمنين"؛ لأن أخته كانت إحدى زوجات الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- أمهات المؤمنين.
وقاوم الشعب هذه المظالم بالكلمة نثرًا وشعرًا، وقاوم بالمنشورات.. بل وقاوم بفن الرسم والتشكيل أيضًا.
ويحكي المقريزي (766- 845هـ/ 1365- 1441م) عن هذا اللون من المقاومة، فيقول: "لقد اعتز النصارى واليهود بعيسى بن نسطورس، ومنشا بن إبراهيم وآذوا المسلمين، فكتب أهل مصر قصة عريضة جعلوها في يد صورة (تمثال) من قراطيس (ورق)، وأقاموها في طريق موكب الخليفة وكتبوا فيها: "بالذي أعز اليهود بمنشا، والنصراني بعيسى بن نسطورس، وأذل بك المسلمين، إلا كشفت ظلامتي!!".
ولأن التمثال قد شابه الإنسان الحقيقي، فلقد أخذ العزيز الشكوى ثم اكتشف أنه تمثال من ورق، وعند ذلك أدرك عاقبة غضب الشعب من (استقواء الأقليات) بالحاكم الغريب عن الشعب، فحاول استرضاء الناس بالقبض على الوزيرين النصراني واليهودي، وانتهزها فرصة فصادر من أموالهما -كما يقول المقريزي- "شيئًا كثيرًا".