- حصار الأمل
هذه الحياة ، بجوانبها العديدة ، و تبدلات المجتمعات التي تحياها ، قد لايفهمها جيل المسلمين اليوم من دون الرجوع إلى نظرة واقعية لها ، متسمة بالبساطة ، مستقرئة للمحسوس المشاهَد منها .
ولا ريب في أن تجاوز مجرد الاستـقراء ، وفهم الأمور معلَّلة مسبَّبة ، هو الوضع الأمثل ، المؤدي إلى الإيمان الأتم الأوفر ، وهو لما يُظن أنه من ظواهر التـناقض أوجب ، و لذلك جاءت عقيدة الإسلام تُحلل وتُعلـل ، ليحيا مَن حَيَّ عن بينة . ولذلك أيضاً حاولت الفلسفات أن تـفهم محركات الحياة ، فقاربت كاقتراب سقراط من عقيدة التوحيد ، أو أبعدت ، كبعد جمهور المحاولين .
و بتـفسيرات مَن شَرَحَ الكمال العقيدي الإسلامي ، أو من خلال محاوارات الفلاسفة في محاولاتهم الوصول إلى المثالية اتسع القول في القدر ، والجبر والاختيار ، وسر تردد النفس بين التـقوى و الفجور ، و حكمة خلق الشيطان و القائه للنفوس حتى لتختار الضرر الواضح و تأتي بما لا يأتلف مع الفطرة ، و غَلَبَة أهل الشر أحياناً مع كثرة إفسادهم وإرهاقهم للناس ، وكثرة محن أهل الخير وصدود الناس عنهم مع عظيم بذلهم ونفعهم للناس ، و أمثال هذا . و لكن حياة اليوم اكتـنفها التعقيد المادي من كل أركانها ، وتركت كثيراً من المسلمين - كشأن أغلب الناس - في زحمة من المتطلبات والحوائج تسلبهم التـفرغ لتأمل ساكن يحللون فيه و يعلـلون .
و لذلك لم يعد هذا النظر التحليلي بممكن للجميع ، فضلاً عن أن يكون مفهوماً للجميع ، مع أن المسلم مطالب و مكلف - في الوقت نفسه - بأداء الواجب المفروض عليه في التأثير الخَّير في الحياة ، بالأمر بالمعروف ، و الدعوة إليه ، والنهي عن المنكر ، ملزم به إلزاماً ، مُضيّق عليه في الاعتذار إزاءه .
ومن هنا تـفرض سرعة صراعنا الحاضر مع أشكال الكفر الجديدة أن نلجأ ، بسرعة توازيها ، إلى بساطة النظرات الواقعية ، لإسعاف المسلم القائم على ثغور هذا الصراع بقناعة و شجاعة تدعانه يلج دروب البذل التي تـفرضها واجبا ت رقابته على العالمين ، أمماً و أفراداً ، وأمره ونهيه ، مقوماً لهم ومُعدلاً .
ولن تجد الحركة الإسلامية ثنية بعيدة عن البدعة تطل بدعاتها من فوقها على منظر بسيط لحقيقة الحياة ، شامل في رؤيته ، كما تكون إطلالتها على حقيقة الموت . هذه الحقيقة المستغنية عن الدليل والتحليل ، والتي تؤذن فيهم وفي الناس كل صباح ومساء .
• عظمة المشهود : دليل الغيب
و ذاك من كمال عقيدة الإسلام وتمام فن المؤمنين بها في الدعوة إليها ، أنها و أنهم في حرص على أن يسلك المتحيَّر أو المتردد الطريق الأدنى إلى الإيمان .
والمثـل في ذلك كمثـل الذي استغـلقـت عليه الغيوب التي أخبر بها الأنبياء عليهم السلام ، من البعث والحساب ، والجنان والنيران ، فتمر به على سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، تريه إعجاز ما بين صدعه بالتوحيد فريداً مكذّبا ، وبين صدع المؤذنين بالتكبير قبل نهاية سيرة الراشدين من خلفائه على كل روابي أرضين المدنيات ، فتجعل رؤية إعجاز السيرة باب تصديق يدلف منه إلى ما يكاد أن يكون رؤية لذلك الغيب ، و تكون قد جعلت الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم سبباً للإيمان بالله ، ولا نعلم فقيهاً يمنع ذلك ، غير الباقلاني ، فإنه يوجب الإيمان بالله تعالى قبل الإيمان برسله صلى الله عليه وسلم ، وليس لمنعه وجه ظاهـر .
هذا بَلْهَ عن امتلاء القرآن بنداءات بسيطة و دعوة إلى تفكّر في خلق السماء و الأرض يقود إلى الإيمان بالله .
وكل ذلك من وجوه كمال عقيدة الإسلام ، بما نّوعت خطابها لأنصاف العقول و مقادير النباهة ، فمن أشكل عليه التعليل : أدخَلَتْه من باب ما يمكن حِسه ، وعوّضت عن التعليل بتكرار التذكير .
و الواقعية التي نريد أن نستـفيد منها اليوم ليست إلا التي وفرتها عقيدتـنا منذ أبعد الأمس ، حين أطنبت في التذكير بالموت ، و أنذر كِتابُها سكرةً لا بد أن تميد لها كل نفس مهما كانت عنها تحيد .
و لهذا وجب على خطة الحركة الإسلامية التربوية أن تعتمد التذكير بالموت ضمن أسسها ، و تأخذ بيد كل داعية ليلمس لمساً قريباً حقيقـته وتـفاهة الحياة ، فينطلق من بعدُ انطلاقته في البذل ، و يتخلص من ثِـقـلة إلى الأرض تحاول الأموال أن تُركس كل متـزين بها إليها .
• لوحة من الفن الإسلامي :
و لئن جمع قادة الحروب جنودهم قبل كل معركة ، و حـلـّقـوا بهم حلقة ، ليرسموا لهم على الأرض خطة تعبئة لحصار عدوهم ، فإن على قادة الحركة الإسلامية أن يرسموا قبل ذلك لحلقات الدعاة إلى الله خطة حصار الأجل للأماني الكواذب ، يذكرونهم إياه ، كما رسمه النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم لأصحابه على أرض المدينة ، ففتحت لهم – لما وعوا خطوطه – المدن .
و كان فيهم يومها : عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فوصف فقال : ( خط النبي صلى الله عليه وسلم خطاً مربعاً ، وخط خطاً في الوسط خارجاً منه ، و خط خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط ، من جانبه الذي في الوسط ، وقال : هذا الإنسان ، وهذا أجله محيط به – أو : قد أحاط به – وهذا الذي هو خارج : أمله ، وهذه الخطط الصغار : الأعراض ، فإن أخطأه هذا : نهشه هذا ، و إن أخطأه هذا : نهشه هذا )
وكان فيهم أيضاً : أنس بن مالك رضي الله عنه ، فوصف ، فقال : ( خطَّ النبي صلى الله عليه وسلم خطوطاً ، فقال : هذا الأمل ، وهذا أجله ، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخط الأقـرب )
وفي رواية : مثل ابن آدم جنبه تسع و تسعون مَنِيَّة ، إن أخطأته : وقع في الهَرَم .
و اكتملت بهذه الخطوط الشريفة لوحة من الفـن الرمزي التجريدي فريدة .
إنه الإنسان الضعيف تغزوه الأعراض غزواً فيه إلحاح . عدوى ، أو سرطان ، أو حريق ، أو غرق ، أو زلق ، أو سقوط ، أو اصطدام ، أو لدغة ، أو تسمم بطعام ، أو طلقة تائهة .
فإذا نجا من كل ذلك : كان له في الهرم ، و ضغـط الدم وارتـفاع نسبة السكر : تأديب أي تأديب .
فإن أطال النـَفـَس : اقتص منه الموت { قل إن الموت الذي تـفرون منه فإنه ملاقيكم } تعددت الأسباب والموت واحد ، يحاصر الأمل الشارد الذي يتوهم الإفلات حصاراً شديداً .
أمل أبيض وضّاء ، كلما برق : زهت في نظر صاحبه الأموال ، و الحِسان ، و العطور ، و القـصور ، و المناصب ، و الشهادات ، فينسى مع نظره المنسرح المسترسل متطلبات دعوتـه ، و يصد عينه عن أرض مقدسة يـفسد فيها يهود ، ولا يعود أنفه يشم رائحة شواء دعاة الإسلام في الصومال ، ولا نتن جثث الأتراك تحت حائط في قرية قبرصية ، وتتـناسى أذنه وقع أحذية عساكر الهنادك في البنغال ..!
لكنه لو نظر ببصيرته لعرف أن أمله الوضاء إنما يـلـفه محيط أسود حالك ، يتيه فيما دونه من الظلمات ما لم يتبع في مشيه مخرجاً تدل عليه التـقوى .
فهو تَرَقُّب جميل ، لكنه يتـنغص .
وظل ظليل .. لكنه يتـقـلص .
ومطامع وراء الأودية والمفاوز ، وليس هو لما قـُدر له بمجاوز .
و أنفاس قبل كل ذلك .. تـُعدُّ .
ورحالة .. تـُشدّ.
وعاريته .. تـُرد .
و التراب من بَعد .. ينتظر الخد
فإنه ليس عُقبى الباقي غير اللحاق بالماضي .
وعلى أثر من سَلَفَ .. يمشي من خَلَف .
و ما ثَمَّ إلا أمل مكذوب ...... و أجل مكتوب .
• رؤيــة تـــمــتــد
و " إن هذا النظر ، الذي وراءه التذكر ، الذي وراءه التـقوى ، التي وراءها الله ، هذا وحده هـو القوة التي تتـناول شهـوات الدنيا فتصفـِّيها أربع مرات ، حتى تعود بها إلى حقائقها الترابية الصغيرة التي آخرها القبر ، و آخر وجودها التلاشي "
و " إن الذي يعيش مترقباً النهاية يعيش مُعداً لها , فإن كان مُعداً لها : عاش راضياً بها , فإن عاش راضياً بها : كان عمره في حاضر مستمر ، كأنه في ساعة واحدة يشهد أولها ويحس آخرها ، فلا يستطيع الزمن أن ينغـص عليه مادام ينقاد معه و ينسجم فيه ، غير محاول في الليل أن يبعد الصبح ، ولا في الصبح أن يبعد الليل "
و بمثل هذا النظر و الترقـب الذي أكسبه الأنبياء عليهم السلام من قاتل معهم من الربّيين : صفت النفوس ، و ثبتت بركيزة من الطمأنينة سكنت معها و هدأت ، فرأت حين زال الاضطراب إطار الحقائق الترابية للشهوات الدنيوية ، فزال ما هنالك من تطلع زائد .
ثبات له من الرسوخ إزاء الأماني مثـل الذي كان ما بين رؤية إبراهيم عليه السلام للأفولِ ، فلم يحب الآفلين ، وبين بقية من حنيفيته – كادت أن تتصل ببعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم – أرَتْ أمية بن أبي الصلت حقائق الحياة ، فكاد أن يسلم ، فصرخ فيما حوله من جاهلية :
اقترب الوعدُ ، والقلوب إلى اللهو **** و حب الحياة سائقُها
ما رغبةُ النفسِ في البقاء وأن **** تحيا قليلاً والموت لاحِقها ؟
أمامـها قـائـد إلـيـه ، ويحدوها ****حثـيـثـاً إلـيـه سائقـُها
قد أيقنت أنها تصير كما **** كان يراها بالأمس خالقـُها
و إن ما جمّعت وأعجبها **** من عيشة مُرة مفارقُها
من لم يَمُت عَبطة يمت هَرَما **** للموت كأسٌ و المرءُ ذائقـُها
فكانت صرخاته في عكاظ إرهاصاً ينبي عن نبوة جديدة ، أحيت لما جاءت سنن الترقب و النظر الذاكر ، فزهد أصحابٌ ورثوها بما هنالك ، فانقـلبوا يصلحون للإنسان الواهم ما أفسدتـه شهـواته ، وما متاع أحدهم عند الوداع غير بُردة قصيرة جعلت عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يبكي ، و يعاف الطعام ، ويقول :
( قـُتـل مصعب بن عمير وهو خير مني : كـُفـن في بُردة ، إن غُطي رأسه : بدت رجلاه ، وإن غـُطي رجلاه : بدا رأسه , ثم بُسط لنا من الدنيا ما يُبسط ، وقـد خشينا أن تـكون حسناتـنا عـُجـِّـلـت لنا )
• نـسيـان الـمـوت أول الإنحـراف
و ليس ذاك بكاء الأسى ، حَزناً أن لم يَرَ أخاه مصعباً مترفاً ، إنما هو بكاء الخشية من بعض مباح أن يكون حسنةً معجَّلة تمنعه الآجل ، كما أفصح ، ودموع حذر تخرجها روعة تجرد لجهاد يرى ذهاب أبطاله تباعاً ، فيخلف من بعدهم خلف تـكثر في يده الأموال ، و يخاف أن يتـنافسوها ، فيتوقـف نبض فتوح الهداية .
يشبه بكاؤه ذاك عبرة ظلّ يـغـص بها حَلق أبي الدرداء مراراً وهـو يـقول : ( أبكاني فراق الأحبة : محمد وحزبه ) , يُعبر بها عن وجله من جديد طرأ على سمت الجيل الثاني ، مثـلما يريد بها إظهار ألمه لفـراق أخوة كانوا له سبب هداية وتـثبيت ، وفهمهم وفهموه ، في تعامل مسترسل ، ما التالي لهم - مهما حرص - بقادر على أن يُسلي عن قلب أبي الدرداء رضي الله عنه تسليتهم عنه . وكأنهم حالة ما زالت تستبد بكثير من الدعاة الغرباء ، لا يستطيعون لها وصفاً .
لكنه حزن المجاهد الفقيه ، ما كان ليهبط بأبي الدرداء إلى حسرات تستهـلك الهمّة ، بـل أدى بـه إلى صـعود سُلم
التربية ، فاعتـلى درج مسجد دمشق ، فقال : ( يا أهل دمشق : ألا تسمعون من أخ لكم ناصح ! إنّ من كان قبلكم كانوا يجمعون كثيراً ، ويبنون شديداً ، ويأملون بعيداً ، فأصبح جمعهم بوراً وبنيانهم قبوراً ، وأملهم غروراً ) و لبث في أهل دمشق سنين يخفـف أثر هجمة المال ، ثم أورث المقال أهله ، فكان الرجل منهم يأتي أم الدرداء يستـنصحها فيـقول :
( إني لأجد في قلبي داءً لا أجـد له دواء . أجد قسوة شديدة وأملاً بعيداً ! ) فتـقول : اطلع القبور واشهد الموتى
• إحياء الأمة بذكر الموت
وقارب الاستدراك في زمن الراشد الخامس أن يتم ، لولا السم .
فقد واصَلَ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الطريقة ، فأرجف بذكر الموت قـلوب جيله رهبة ، فنفضت رانها ثم انـثـنى ، فحرك إلى الشهادة حَنانها .
و ما أكثر ما وقف عمـر موقـف أبي الدرداء على درج مسجد دمشق ، ليجدد الوعظ القديم ، ويقرر لهم :
" إن الأمان غداً لمن حذر الله وخافه ، و باع قليلاً بكثير ، و نافذاً بباق " .
حتى إذا أيقنوا صواب الصفـقة : راح يريهم من يومياتهم وواقعهم ، بعين التأمل ، مالا تراه عين الغفلة ، ويقول لهم : " ألا ترون في أسلوب الهالكين ، وسيخلفها من بعدكم الباقون ، وكذلك حتى تُردّوا إلى خير الوارثين ؟ ألا ترون أنكم في كل يوم وليلة تشّيعون غادياً إلى الله ورائحاً ، قد قضى نحبه ، وانقضى أجلُه , وطُوي عمله ، ثم تضعونه في صُدع من الأرض في بطن لحد ، ثم تَدَعُونه غير موَسَّد ولا ممهّد ، قد خلع الأسلاب ، وفارق الأحباب ووُجّه للسحاب ، غنياً عما ترك ، فقيراً إلى ما قدّم " . ولربما أجلس أحدهم أمامه و علّمه ، تعليمه عنبسة بن سعيد : " يا عنبسة : أكثـر ذكر الموت ، فإنك لا تـكون في ضيقة من أمرك ومعيشتـك فتذكـر الموت إلا اتسع ذلك عليك . ولا تكون في سرور من أمرك وغبطة فتذكـر الموت إلا ضيّق ذلك عليك "
حتى إذا ربّى حاشيته ، و خلصوا من وهـم الأمل نجيّاً : راح ينشر مذهبه في الأمصار ، فيرسل على أعيانهم ، فيأتونه ، فيفشي لهم سِرّ القبر ، وما هـو عند أولي الألباب بِسـرّ .
قال التابعي محمد بن كعب القرظي رحمه الله :
( لما استخلف عمر بن عبد العزيز رحمه الله بعث إليّ وأنا بالمدينة فقدمت عليه , فلما دخلت جعلت أنظر إليه نظراً لا أصرف بصري عنه ، متعجباً ، فقال : يا ابن كعب : إنك لتـنظر إليَّ نظراً ما كنتَ تـنظره !
قلتُ : متعجباً
قال : ما أعجبك ؟
قلت : يا أمير المؤمنين : أعجبني ما حال من لونك ، و نَحَلَ من جسمك و نفي من شَعرك .
فقال : كيف لو رأيتـني بعد ثلاثة ، وقد دلّيتُ في حفرتي ، وسالت حدقتي على وجنتي ، و سال منخري صديداً و دوداً ؟ )
فشاع خبره في الآفاق ، حتى إذا أرسل إلى أعيان الكوفة : بادروه مبادرة ، و جلبوا شاعرهم أعمش همدان معهم ، يعلن له قناعتهم و براءتهم من أمل يطاره عمر ، قد عرفوا جده في إجلائه عن دار الإسلام .
و ينطلق الأعمش بين يدي عمر :
و بينما المرءُ أمسى ناعماً جذلاً **** في أهله معجباً بالعيش ذا أنَقِ
غِرّاً ، أتيح له من حَينِهِ عَرَضِ **** فَمَا تَلبّثَ حتى مات كالصَّعِقِ
ثـُمـّتَ أضحى ضحى من غِبَّ ثالثة **** مُقنّعاً غير ذي روحٍ ولا رَمَقِ
يُبكي عليه و أَدنوهُ لمُظلِمَةٍ **** تـُعـلى جوانبها بالتـُرب و الفِلَقِ
فما تـَـزَوَّدَ مما كان يَجمعُهُ **** إلا حَنوطاً و ما واراهُ مِن خِرَقِ
و غيرُ نـَفـْحَةِ أعوادٍ تـُشـَبُّ له **** وقلَّ ذلك من زادٍ لمُنطِلقِ
فتـنهمر هاطلة دموع عمر ، وتختـلط بأصوات نشغاته ، ليتجاوز تَرادّ صداها دهـوراً تـتعاقب ، يـقود المربين المسلمين .
• عـودة إلى الـرشـد :
ولئن توالى اليوم فراق الأحبة ووداع الرعيل الأول المتجرد المتواضع المؤسس لـلحركة الإسلامية المعاصرة ، لنبكـيه مع هجمة المال بكاء أبي الدرداء ، أو بكاء سلمان الفارسي ، وفي رواية أخرى حذراً وغربة ، حين افتـقدا ، رضي الله عنهما ، حزب محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن بكانا لا يحق له أن يهبط بنا إلى تأوهات تجاوزتها همتهما ، ولا بد لنا - مع بداية مرحلة جديدة تُرشِح دعوتـنا لملء فراغ تركه فشل التطرفات القومية و الشيوعية - من ارتـقاء درجات الاستدراك التربوي ، هامسين لكل داعية بمواعظ عمر ، لتعود لنـفسه فتوتها و إقدامها ، وتطـلعها الأخروي ، فإنه قد طال التجوال في البطالة ، و لربما حـيـَّر ، وامتـد الركون إلى الاغتـرار و كأنه قد غيـّر .
وكأن بالداعِ قد يبكي **** عليه اقربوهُ
و كأن القوم قد قاموا **** فقالوا : أدركوهُ
سائلوه ، كلموهُ ****حرّكوه ، لقـنوهُ
حرِّفوه ، وجِّهوهُ **** مدِّدوه ، غمضوهُ
عجَّلوه لرحيلٍ **** عجّلوا لا تحبسوهُ
ارفعوه ، غسلوهُ **** كـفـِّـنوه ، حنّطوهُ
فإذا ما لُفَّ في الأكفان **** قالوا : فاحملوهُ
أخرجوه فوق أعواد **** المنايا شيّعوهُ
فإذا صلوا عليه ****قيل : هاتوا و اقبروهُ
فإذا ما استودعوه **** الأرض رهناً تركوهُ
خلـّـفـوه تحت رمسٍ **** أو قـروهُ ، أثـقـلوهُ
أَبعدوهُ ، أَسحَقوه **** أوحَدوه ، افردوهُ
ودّعوه ، فارقوه **** اسلَموه ، خلــَّـفـوه
و انثنوا عنه و خلّوه **** كأن لم يعرفوهُ