الإيمان بين الشكل والجوهر
من الناس من لا يكاد يهمه من الإسلام إلا الشكل لا الجوهر، والصورة لا الحقيقة، فأهم ما يُعنَى به من دينه إعفاء اللحية، وتقصير الثوب، وحمل المسواك، ونحو ذلك؛ وهذه كلها أمور تتعلق بالمظهر أكثر مما تتعلق بالجوهر.
فالإسلام عقيدةٌ جوهرها التوحيد، وعبادةٌ جوهرها الإخلاص، ومعاملةٌ جوهرها الصدق، وخلقٌ جوهره الرحمة، وتشري...عٌ جوهره العدل، وعملٌ جوهره الإتقان، وأدبٌ جوهره الذوق، وحضارةٌ جوهرها التوازن، ومن ضيَّع هذه الجواهر فقد ضيَّع الإسلام، وإن تمسَّك بظواهر الرسوم والأشكال.. يقول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "أربعٌ من كن فيه كان منافقًا خالصًا، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، ومن كانت فيه واحدةٌ منهن كان فيه شعبة من النفاق حتى يدعها؛ إذا حدث كذب، وإذا أؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" (متفق عليه).
يحسب البعض أن الإيمان الذي ينجِّي الإنسان من النار، ويؤهله لدخول الجنة في الآخرة مجرد معرفة ذهنية، تُختزن في الذاكرة، ولكن الإيمان منهج يقوم على النظر والتفكر في آيات الله، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ﴾ (آل عمران: 190)، وقد أعجبت بالمنهج السلفي لعنايته بالرجوع إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة في إثبات العقيدة وتثبيتها، مرجِّحًا أساليب القرآن على أساليب فلسفة اليونان.
كما أعجبني من هذا المنهج تركيزه على تحرير التوحيد من كل شوائب الشرك أصغره وأكبره، ولكن الاتجاه السلفي المعاصر غرق في خضمِّ الجدل في مسائل العقيدة، وغدا شغله الشاغل ما يتعلق بما أسماه (آيات الصفات) و(أحاديث الصفات)، ومأخذي على هذا الاتجاه أمران: الأول تركيزه على هذا الموضوع المختلف فيه على حساب المتفق عليه، والثاني: أن هذا الاتجاه وقع فيما وقع فيه الاتجاه العقلاني الأشعري الآخر، من اعتبار الإيمان مسألةَ معرفة ذهنية.
إيمان القرآن والسنة
إن إيمان القرآن والسنة نور يضيء كل جوانب النفس، وينير العقل، وينعش الوجدان، ويحرك المشاعر.. إنه قوةٌ هاديةٌ، وقوةٌ محركةٌ، وقوةٌ ضابطةٌ، وقوةٌ مطمئِنةٌ، وآفةُ مسلمي عصور الانحطاط هي غياب الإيمان الإيجابي، الذي لا يقوم شيء مقامه من علمٍ أو أدبٍ أو فلسفةٍ وقانونٍ.. فغياب المعاني الإيمانية الربانية- التي تربط القلوب ببرد اليقين، وتمد العزائم ببواعث الرجاء في رحمة الله تعالى والخشية من عذابه- تُعدُّ أبرز ثغرة في حياة الإنسان المسلم، تحتاج إلى أن تُسدَّ.
التقوى بين الشكل والجوهر
التقوى من أعظم مقامات الدين، وأطيب ثمار الإيمان، وأفضل ما يحرص عليه المؤمنون، وقد ناط القرآن بها كل خير وكل فضل وكل أثر طيب في الدنيا والآخرة؛ فهي سبب النجاة، وسبب اليسر والسعة، وسبب تكفير السيئات، وسبب معيَّة الله تعالى لعبده، وسبب محبة الله لعبده وحفظه إياه من كيد الأعداء، وهذه التقوى لها شكلٌ وصورةٌ، ولها جوهر وحقيقة، فأما شكلها فالمحافظة على رسوم العبادات وطقوسها الظاهرة، والاهتمام بأعمال الجوارح وطاعات الأبدان، والحرص على تجنب معاصي الجوارح دون الحذر من الوقوع في معاصي القلوب.
أما جوهر التقوى وحقيقتها فيتجلَّى في القلب الذي هو موضع نظر الله تعالى، والذي هو أساس النجاة في الآخرة، قال تعالى- على لسان إبراهيم حين دعا ربه-: ﴿وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ* يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ* إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الشعراء: 87- 89)، وفي الحديث الصحيح أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أشار إلى صدره وقال: "التقوى هاهنا" (ثلاثًا)، وقد جاءت جملة من الأحاديث الصحيحة كلها تبيِّن أهمية النية في دين الله، وفي قبول الأعمال عند الله، فالعبادات كلها لا تقبل عند الله إلا بشرط أساسي لا بد منه؛ وهو الإخلاص لله تعالى.
طاعات القلوب
هناك عبادات قلبية، وهي التي تعرف بـ(طاعات القلوب)، وهي أهم من طاعات الجوارح، حتى قال الإمام الغزالي: "إن ذرَّةً من أعمال القلوب قد ترجِّح أوزان الجبال من أعمال الجوارح".
معاصي القلوب
وهذه المعاصي أشدُّ خطرًا من معاصي الجوارح، حتى إن أعمال الجوارح لا تُقبل إلا بعمل قلبي؛ وهو النية والإخلاص، ونقصد بهذه المعاصي ما كان آلته القلب، مثل: الكبر، والحسد، والبغضاء، ونحوها؛ وهو ما أسماه الغزالي (المهلكات)؛ أخذًا من الحديث الشريف: "ثلاث مهلكات: شحٌّ مطاعٌ، وهوىً متبعٌ، وإعجابُ المرءِ بنفسِه".
وإنما اشتدَّ خطر هذه المعاصي والذنوب لعدة أمور؛ لأنها تتعلق بالقلب، والقلب هو حقيقة الإنسان، كما أن هذه الذنوب والآفات القلبية هي التي تدفع إلى معاصي الجوارح، كما أن هذه المعاصي سببها فساد القلوب وتمكُّن الشر منها، وقلَّما يتوب صاحبها منها أو يرجع عنها؛ لذا شدَّد الشرع في الترهيب من هذه المعاصي، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" (رواه مسلم عن ابن مسعود).
اتباع القرآن بين الشكل والجوهر
القرآن هو روح الوجود الإسلامي، وينبوع عقائد الأمة المسلمة وأخلاقياتها، ومصدر تشريعها، ولقد كان القرآن هو المؤثر الأول في حياة الأمة وعقلها ووجدانها وسلوكها؛ فكان الصحابة يتلقَّون الوحي القرآني ليسارعوا بتنفيذه، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ما موقف المسلمين اليوم من القرآن؟!
إنهم يُعنَون بالقرآن شَكلاً، ولا يُعنَون به جوهرًا، يحفظونه حروفاً، لكنهم لا يقيمون أحكامه وتعاليمه، وقد عبرتُ عن هذه الظاهرة الغريبة في كتابي (كيف نتعامل مع القرآن؟).
فاتباع القرآن يعني أن نجعله لنا إمامًا يقودنا ونحن نمضي وراءه، فمن جعل القرآن أمامه قاده إلى الجنة.. إننا نريد أن يكون للقرآن تأثيره العملي في حياتنا.. إن القرآن عندنا لم يَعُد مُفجِّرًا للطاقات، ومجنِّدًا للقدرات؛ فمن القيم الغائبة في حياة الكثير من المسلمين، الخلُق القرآني، الذي وَصفت به أمُ المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- النبيَّ- صلى الله عليه وسلم- فقالت: "إن خلق نبي الله كان القرآن" (رواه مسلم في كتاب المسافرين).
اتباع السنة بين الشكل والجوهر
إن السنة النبوية هي المصدر الثاني للإسلام بعد القرآن الكريم، وإن كثيرًا ممن يباهون بأنهم يحافظون على السنة إنما يحافظون على شكلياتها أكثر مما يحافظون على جوهرها، فليس من الحسن أن تنسى ما أوصَت به السنة من التيسير والتبشير، وما حذَّرت منه من التعسير والتنفير، قال- صلى الله عليه وسلم-:"يَسِّروا ولا تُعسِّروا، وبَشِّروا ولا تُنفِّروا" (متفق عليه).
وليس حسنًا أن تغفل طريق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذي كان يقلل التكاليف على الناس ما استطاع، وينهاهم عن كثرة السؤال؛ حتى لا يشدِّدوا على أنفسهم فيشدِّد الله عليهم، وكان- صلى الله عليه وسلم- يرغب في الأخذ بالرخص تخفيفًا وتيسيرًا على خلقِ الله، فقال- صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يُحب أن تؤتَى رخصُه، كما يكره أن تؤتى معصيته" (رواه أحمد)، وكان- صلى الله عليه وسلم- يزجر من شدَّد على نفسه فترك الرخصة وهو محتاج إليها؛ كالذي صام وهو مسافر، والصيام شاقٌّ عليه، فقال له: "ليس من البر الصيامُ في السفر" (متفق عليه).
وكان- صلى الله عليه وسلم- أشدَّ الناس رفقًا وإشفاقًا على من أخطأ وهو حديث عهد بالإسلام، وأعظم من ذلك أنه كان يدعو إلى الرفق بأهل الخطيئة إذا لمح في حناياهم بقايا الخير وجذور الإيمان، فهو- صلى الله عليه وسلم- لا يقصر بصره على السطح الذي طفَت عليه المعصية، بل ينفُذُ ببصيرته إلى الأعماق، فيجد فيها بذور اليقين والحب لله ورسوله.
وليس حسنًا دائمًا أن تضيِّقَ على الناس فيما وسع الله عليهم فيه، وتُفتيَهم بالأثقل دائمًا، وتأخذهم بالأحوط أبدًا، وتُغيِّبَ عنهم الرخصة وهم أحوج شيء إليها، وأن تحسب أن ذلك هو الفقه.. يقول "سفيان الثوري": "إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشديد فيُحسنه كل أحد". دعوى من قال "ليس في الإسلام شكل وجوهر":
لكَمْ ساءني حين قرأت لبعض الشباب المتحمس حملَه- بقسوة- على الذين يقولون: إن في الدين شكلاً وجوهرًا، وصورًا وحقائق؛ كأنما يرى أن أحكام الدين وتعاليمه كلها في منزلةٍ واحدةٍ، لا يفترق بعضها عن بعض، وهذا الفهم مخالفٌ للقرآن والسنة، وما جاء عن سلف الأمة.
فالإيمان في القرآن والسنة ليس كلمةً يتفوَّه بها اللسان، ولا دعوى يدعيها الإنسان، ولا ظواهرَ برَّاقة تخفي تحتها بواطن منتنة؛ إنما الإيمان عقيدةٌ راسخة تستقر في قلب صاحبها فتثمر في حياته ربانيةً خالصةً، وإنسانيةً فارعةً، وأخلاقًا فاضلةً، وأعمالاً صالحةً..
المصادر :
* من كتاب (الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد) باختصار وتصرف يسير.
د/يوسف القرضاوى