رسالة من: أ. د. محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين
تبقى الشعوب.. ويزول الطغيان
=================
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الهادي الأمين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، وبعد؛
تنطلق هتافات الأمة في حركتها الآن في أوطاننا بالعبرة، لتعلن على المسامع قول الحق جل في علاه ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)﴾ (غافر)، وتظهر حقيقة الطغيان الواقع على أمتنا، وترسم صورًا لطغاة أمثال "شاه إيران" ومن بعده "تشاوشيسكو"، وكلاهما ما أُغني عنهما حين انتفضت شعوبهم ما كانوا يكسبون من جاه وسلطان وقوات أمن وثروات منهوبة.
واليوم يردِّد الإخوان المسلمون مع الشعب كله على مسامع ولاة الأمر في بلادنا، ألم يكن لنا دروس وعبر في رحيل صدام حسين، وفي هروب بن علي من تونس تحت جنح الظلام والظلم وأنين المستضعفين، وفي هدير الشعب التونسي ضد سجانيه، وفي التقسيم الذي صار مفروضًا على الوطن الواحد، وأخيرًا في فضائح التفاوض مع العدو الصهيوني، والتفريط في حقوق فلسطين وأهلها المرابطين التاريخية، بل والعمالة السافرة للعدو، وتسليم المقاومين، وقبض ثمن الأرواح الطاهرة.
ورغم كل هذه العبر والدروس يضع الحكام أيديهم في يد النظام العالمي الصهيوأمريكي، ويكرسون الانفصال عن شعوبهم ويتترسون بغيرهم من أجل البقاء على كراس، كتب الله لها الزوال، وإلا ما وصلت إليكم.
هذه الدروس والعبر تؤكد على مرِّ الزمان أن الشعوب تمرض ولا تموت، وحقوق الشعوب تُنهب ولكن لا تضيع، والشعوب لا تأسرها قضبان الظلمة ومحاكم الطغيان، ولا ترهبها زيارات الفجر وقوانين الجور، ولا تقف في وجه حريتها دساتير تفصل على مقاييس الطغاة ومصالح سدنة معابدهم، إنه وعد الله لا يخلف الله وعده، حين يستبد الطغيان ويظن أنه لا صوت فوق صوته.
- حال الاستبداد ورفض الاستعباد:
﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)﴾ (القصص)، يقول الإمام الشهيد حسن البنا: "تقرأ هذه الآية الكريمة فترى كيف يطغى الباطل في صولته ويعتز بقوته، ويطمئن إلى جبروته ويغفل عن عين الحق التي ترقبه"، وساعتها تتوجه الأوامر الربانية لتعمل عملها في نفوس المظلومين فيثوروا لحريتهم ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)﴾ (القصص).
إنها إرادة الله التي تأبى إلا أن تنتصر للمظلومين، وتأخذ بناصية المهضومين المستضعفين، فإذا الباطل منهار من أساسه، وإذا الحق قائم البنيان متين الأركان، وإذا أهله هم الغالبون.. إنها بشارة لا تجعل لأمة مؤمنة عذرًا في يأس أو قنوط ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26)﴾ (النحل).
وإن الأيام دول، ودولة الظلم مهما طالت ساعة، ودولة الحق تبقى حتى قيام الساعة، ويبتعث الله من عباده من يحيي فيها روح الحرية، كما فعل نبي الله موسى- عليه السلام- حين وقف بين يدي الفرعون، يطالبه أن يعيد إلى شعبه حريته ويترك له كرامته ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ﴾ (الشعراء: من الآية 22) ذات السؤال التهكمي الذي يقرع مسامع طغاة اليوم "أيها الجبارون المتحكمون في عباد الله، هل من النعمة التي تذكِّرون بها كل مصلح، والجميل الذي تسدونه لبني جلدتكم من دعاة النهضة، أن تستعبدوا الشعوب، وتحقروا الأمة، وتمتهنوا الناس، وتتهمون معارضيكم بالدعوة للفوضى!.
فإلى الذين يخوفون الباحثين عن حريتهم شاهرين الفوضى تهمة مطاطة وسابقة التجهيز.. اسألوا أنفسكم من صنع الفوضى وصدرها، وأزكاها بجوره وظلمه.
1- إن من جعل الفوضى سمة عصر في نهب ثروات الشعوب، ليذهب أهل الحكم بكلِّ مقدرات الأوطان، في حين يُفرض على الشعوب أن تشد وحدها الحزام.. هو من صنع الفوضى.
2- إن من باع خيرات الشعوب والأوطان للعدو، وترك من استرعاه الله عليهم، يتقاتلون على رغيف الخبز وأنبوبة الغاز.. هو من صنع الفوضى.
3- إن من زوَّر إرادة الشعب، ولوى عنق حقائقه ليصبح من يصفق ويهلل وينافق مكان من يراقب ويحاسب.. هو من صنع الفوضى.
4- إن من فصل الدساتير والقوانين ليورث الأرض والشعوب، ويحول الأمم إلى عقار مؤمم الإرادة والثروة والقرار.. هو من صنع الفوضى.
5- إن من غضَّ الطرف عن مؤامرات تقسم أوطاننا، وسمح لخناجر الفتن أن تفرق الشعب الواحد.. هو من صنع الفوضى.
4- إن من أهدر طاقات شعبه وقدرات أبنائه وهجّر عقوله، وأغرق في سفن الحزن الباحثين عن الرزق، ووأد في قوارب الهجرة زهورًا شابةً، وقتل في معتقلاته وعلى يد زبانيته أبرياء بتهم لم يرتكبوها.. هو من صنع الفوضى.
وبعد هذه الجرائم وغيرها يُشهر الطغاة تهمة الفوضى في وجه الإصلاح ودعاته! ليعيدوا تمثيل مشهد الاستبداد الفرعوني القديم حين تهدد صيحات الحق زور بنيانه ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)﴾ (الشعراء)، ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)﴾ (غافر: من الآية 26).. إنه الكيد القديم لكن آي الله أقدم ﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)﴾ (الفيل).
- على درب الحرية والكرامة:
ليس سعيًا للقمة عيش تسدُّ جوعًا، ولا لزيادة أجر يأكلة غلاء فاحش، ولا لوظيفة لا تواجه غول فقر ووحش فساد.. ليس من أجل هذا فقط، وإنما الإصلاح الشامل، والتصدي للفساد، ومحاسبة الفاسدين والمفسدين؛ هو جوهر ما تنادي به الأمة، ولقد أفاقت الشعوب من سباتها، ورفعت عنها ثوب الدعة والخنوع، فالواقع خارجيًّا وداخليًّا صار يسبق كل رزق وكل قوت، ليهدد الكرامة والسيادة والوحدة والحرية، بل والعقيدة والقيم ومكارم الأخلاق.
فالأمة التي تجعل الدنيا بلقيماتها هي غاية الحياة أمة مقهورة واهنة، حذَّر منها القائد القدوة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، فقال قائل: أو من قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن"، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".. فمن واجب الأمة أن تتحرك ضد وهن نفوسها، وضعف قلوبها، وخواء أفئدتها من الأخلاق الفاضلة وصفات الرجولة الصحيحة والنخوة والشهامة، حتى وإن كثر عددها وزادت خيراتها وثمراتها.
فيا أمتنا العربية والإسلامية.. إن أردتم النهضة والإصلاح فعليكم أن تعدوا العدة لها عَبْرَ:
1- إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف ولا يوهنها تجبر ولا استقواء بطغيان الغرب.
2- وفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، فتمسي الإرادة في الإصلاح والتقويم واحدة، حتى وإن اختلفت المشارب الفكرية والتوجهات السياسية والأطر التنظيمية؛ لأن حرية الوطن واستقراره فرض العين وواجب الوقت.
3- تضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل ولا حرص على ظهور أو سعي لرياء.
4- معرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له، يعصم من الخطأ فيه أو الزلل أثناء السير في طريقه والانحراف عنه، والمساومة عليه، والخديعة بغيره، أو الانحراف لغير أصل القضية وعينها ألا وهو رفض الظلم والاستبداد.
إنها الأركان التي يجب أن تقوم عليها صحوة أمتنا، لتكون حركة الشعوب فتية، وتعود معالم الحياة تدب في أوصالها التي حرمت منها طويلاً، قادرة على أن تواجه كل دعاوى التثبيط، وتسقط كل ألوية المثبطين؛ لأن الطريق مهما بدى طويلاً، فإن سنة الله ماضية، ورغم صعوبة إزاحة الاستبداد الجاثم على صدر أمتنا، إلا أن التاريخ يذكر أن كل حصون الاستكبار سقطت أمام إرادة التغيير الشعبي المقرونة بإرادة الملك الحق ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾ (الحشر: من الآية 2)، رغم أن الخطاب الرسمي وقتها كان يوحي باستحالة ذلك، لكن صدق أصحاب الحق جعل لهم من آيات الله عونًا، فكانت النتيجة ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)﴾ (النمل).
أمتنا تملك المقدرات والقوى البشرية، ومن حقِّها أن تملك قرارها لتدير مقدراتها بقواها، دونما استبداد يغير ولاءاتها، وبغير طغيان يقهر أوطانها، وبعز يكفل لها سلطانًا على ربوعها وأقطارها، ويحفظ أمنها القومي من عدو يتربص بها، وما ذلك على الله بعزيز ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)﴾ (الإسراء: من الآية51)، وستبقى الشعوب مهما كانت قوة القهر، وسيزول الطغيان مهما امتلك من أدوات البطش والإرهاب ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)﴾ (الروم