مصلحة أمريكا أم مصلحة اليهود؟!
راغب السرجاني
لا يخفى على عاقل أن المساعدة الأمريكية لليهود في فلسطين أصبحت تمثل ركنًا رئيسيًّا من أركان الحكم في أمريكا وإسرائيل، وأن الوضع قد استمر على هذه الحال عدة عقود متتالية، ولعله سيستمر فترة أطول من الزمان، الله أعلم بها.
وقد يخطئ البعض ويظن أن المصالح وحدها هي التي تحكم العلاقة بين الطرفين، بمعنى أن أمريكا تساعد اليهود لأن مصالح أمريكا تقتضي ذلك؛ لأننا كثيرًا ما نرى أن الأمريكان يساعدون اليهود في فلسطين ضد مصالح أمريكا ذاتها! وهذا ليس أمرًا جديدًا، إنما هو يحدث قبل أن تقوم لليهود دولة في داخل فلسطين الحبيبة. الطيار الأمريكي لندبرج والذي حذر بلاده من مغبة السير وراء اليهود ولكن دون جدوى
ولقد قام طيار أمريكي مشهور هو لندبرج (أول من عبر المحيط الأطلنطي بطائرة سنة 1927م من نيويورك إلى باريس)، قام هذا الطيار بإلقاء خطبة في 11 سبتمبر سنة 1941م في جمع من الأمريكيين يزيد على سبعة آلاف، وذلك في ولاية (أيوا) الأمريكية، وقال فيها: "إن أمريكا تتورط الآن في دخول الحرب العالمية الثانية، وأن الذي يورطهم في هذه الأزمة هم الإنجليز واليهود"، ثم وقف يتحدث عن اليهود ويذكر ملكيتهم الضخمة لكثير من الشركات والاستوديوهات العملاقة في أمريكا، ثم قال في وضوح عن اليهود: "إن اليهود يريدون لنا التورط في الحرب لأسباب مفهومة من وجهة نظرهم، بقدر ما هي غير حكيمة من وجهة نظرنا، فهي أسباب غير أمريكية"!!، ثم قال: "نحن لا نستطيع لومهم لأنهم يتطلعون إلى ما يعتقدون أنه في صالحهم، ولكننا يجب أيضًا أن نتطلع إلى صالحنا، ونحن لا يمكن لنا أن نسمح للعواطف الطبيعية لقوم آخرين وتحيُّزاتهم بأن تدفع ببلادنا إلى الخراب!!".
لكن واقع الأمر أن كلمات (لندبرج) مرت أدراج الرياح، ودفع اليهودُ أمريكا دفعًا إلى دخول الحرب العالمية الثانية، وإلى حمل الملف اليهودي بكل حماسة، والسعي الحثيث وراء إنشاء دولة لهم في أرض فلسطين، حتى وصل الأمر إلى أن أمريكا أعلنت اعترافها بدولة اليهود في فلسطين بعد إحدى عشرة دقيقة فقط من إعلانها!!
هل كانت هذه هي المصلحة الأمريكية البحتة؟!
أبدًا.. لم يكن الأمر كذلك.
إن أمريكا دولة ضخمة جدًّا، بل هي قارة بكاملها، وهي تضم بين طياتها 52 ولاية بمنزلة 52 دولة من دول عالمنا المعاصر، وقد ظلت فترة طويلة من الزمن تعيش في عزلة عن العالم، ويفصل بينها وبين العالم المعمور المحيطُ الأطلنطي من جهة، والمحيط الهادي من جهة أخرى، ولم تكن تحتاج - لا من قريب ولا من بعيد - إلى الدخول في صراعات في دول العالم هنا وهناك، بل كانت تعيش في ظروف جيدة جدًّا، خاصةً وأنها بمساحاتها الشاسعة تتمتع بثروات اقتصادية وزراعية ومعدنية وبترولية ومائية هائلة، إضافة إلى التقدم العلمي الملموس الذي تعيشه منذ أكثر من مائة وخمسين عامًا.
إنها لا حاجة لها أن تزجَّ بأنفها في الحرب العالمية الأولى، وليس من مصلحتها أن تندفع إلى الحرب الكونية الرهيبة التي دارت بين الحلفاء والألمان، ولكن واقع الأمر أن إنجلترا وسَّطت اليهود للضغط على الأمريكان؛ ليدخلوا الحرب لينقذوا الحلفاء من هزيمة وشيكة على يد القوة الألمانية المتطورة، وكان ثمن هذه الوساطة أن تقوم إنجلترا بتثبيت أقدام اليهود في فلسطين، وإنشاء دولة مستقلة لهم هناك. أما اليهود فقد قبلوا الوساطة ليس فقط لشراء وُدِّ الإنجليز، بل إنهم قبلوها لما هو أكثر!!؛ فقد بدا لهم أن المستقبل لأمريكا، وأن هذه القوة المتصاعدة لن يقف أمامها أحد في العقود القادمة، وبدا لهم أيضًا أن نجم الإمبراطورية البريطانية قد بدأ في الأفول، ولذلك لا بد من سند جديد يدعم الكيان اليهودي، وهذا السند هو أمريكا.
كل هذا يعني أن المصلحة الأمريكية البحتة لم تكن تتطلب هذا التهور الأمريكي في حرب ضد العالم القديم، مع تبديد طاقات هائلة في هذه الحروب.
هل هذه هي الملاحظة الوحيدة؟!
كلا.. فأمثال هذه الملاحظة في التاريخ أكثر من أن تُذكر في مقال!!
وحادثة ضرب السفينة الأمريكية الحربية "ليبرتي" مشهورة..
لقد قصف الطيران الإسرائيلي السفينة الأمريكية ليبرتي والتي قصفها الطيران الإسرائيلي في الثامن من يونيو سنة 1967 (بعد احتلال سيناء بثلاثة أيام) السفينة الأمريكية ليبرتي، والمزوَّدة بأجهزة للتجسس غاية في التقدم، وكانت في البحر الأبيض المتوسط، وذلك حتى يحول اليهود دون الكشف عن مخططهم في غزو الجولان، والذي لم تكن تعلم به أمريكا، وقد قُتل في هذا القصف أربعة وثلاثون بحارًا أمريكيًّا، وجُرح مائة وواحد وسبعون آخرون، وكان تحليق الطائرات الإسرائيلية فوق السفينة المنكوبة ست ساعات كاملة، واستمر القصف سبعين دقيقة، وبعد كل هذا اعتذرت الحكومة الإسرائيلية عن هذا "الخطأ"، وتم حفظ القضية!!
لكن بعد هذه القصة بثلاثة عشر عامًا، استطاع أحد شهود العيان، وهو ضابط الاتصال بالسفينة ليبرتي، واسمه "إينس" أن يكشف الحقيقة في كتاب له، وبرهن فيه على أن الهجوم كان متعمدًا، وأنه كان حادث قتل واضح، ثم قام اللوبي الصهيوني في أمريكا بالسيطرة على الكتاب الخطير، لكن بعدها بقليل قام الأميرال توماس مور رئيس أركان حرب الأسلحة المشتركة سابقًا بتأكيد هذا الكلام بمقولة هي أشد خطورة، حيث قال: "إنه كان حادثة قتل، لكن الرئيس الأمريكي جونسون كان يخشى ردود فعل الناخبين اليهود!"، ثم أردف قائلاً: "إن الشعب الأمريكي كان يمكن أن يصبح مجنونًا إذا عرف ما يجري!! لقد تكتم الرئيس الأمريكي وقيادات الجيش والحكومة على هذه الفضيحة؛ طمعًا في أصوات الناخبين اليهود".
والأميرال توماس مور هذا يكشف موقفًا آخر حدث سنة 1973 عندما كان يشغل منصب رئيس أركان حرب القوات الأمريكية، فقد طلب منه موردخاي جور الملحق العسكري الإسرائيلي في واشنطن أن يسلم إسرائيل سربًا من الطائرات المسلحة بصاروخ جديد متطور جدًّا اسمه مافريك (Maverick)، ولكن توماس مور قال للملحق الإسرائيلي: "إننا لا نستطيع تسليمكم هذا النوع من الطائرات والصواريخ، فليس لدينا سوى سرب واحد منها، وقد ناقشنا أمره قبل ذلك في الكونجرس، وقلنا إننا في أشد الحاجة إليه". فقال له موردخاي جور: "أعطني أنت الطائرات، أما الكونجرس فأنا كفيل به!".
وصدق موردخاي، فقد وافق الكونجرس، وذهب السرب الوحيد إلى إسرائيل!!
وفي حرب 1982 التي شنها اليهود على لبنان، طلب اليهود من أمريكا صفقة من القنابل العنقوديةالرئيس الأمريكي ريجان وافق على تسليم اليهود صفقة من القنابل العنقودية، ورفض وزير الدفاع الأمريكي لأن هذا يتعارض مع القانون الأمريكي الذي يمنع بيع هذا النوع من القنابل؛ لأنها تستخدم ضد المدنيين، لكن بعدها بأيام تسلَّم اليهود الصفقة بعد أن أقرّها الرئيس الأمريكي ريجان شخصيًّا!!
ولا يخفى علينا أن الاقتصاد الأمريكي مهما عانى، فإن ذلك لا يؤثر على المعونات الأمريكية لدولة إسرائيل..
ولقد حدثت أزمة مالية في أمريكا سنة 1984، وقدمت وزارة التجارة - إضافة إلى عدد من النقابات - تقارير إلى الكونجرس توضح فيه حجم المشكلة، وأوصت بتحديد علاقات التبادل التجاري مع بعض الدول في العالم منها إسرائيل، وذلك كي يخرج الأمريكان من الأزمة بسلام. وفي 3 أكتوبر سنة 1984 صوَّت الكونجرس بأغلبية أكثر من 98% على عدم تحديد أي تبادل تجاري بين إسرائيل وأمريكا!!
وليس الأمر مقصورًا بطبيعة الحال على سنة من السنوات، فالمعونة الأمريكية لإسرائيل متزايدة من عام إلى عام، بصرف النظر عن أي خفض للميزانية العامة الأمريكية، وإسرائيل بالطبع هي أكبر الدول تلقيًا للمعونة من أمريكا على مدار الخمسين سنة الماضية!
ناهيك عن الصورة السيئة لأمريكا في العالم بسبب التأييد السافر لإسرائيل، واستخدام الفيتو في مواقف مخزية تجعل صورة الأمريكان في غاية السوء أمام دول العالم أجمع.
إن كل هذه الملاحظات وغيرها يثبت - بما لا يدع مجالاً للشك - أن السبب وراء المساعدة الأمريكية لليهود ليس هو التقاء المصالح بقدر ما هو الضغط اليهودي المستمر على أمريكا، والذي يقود إلى خدمة إسرائيل حتى لو أدى ذلك إلى الإضرار بمصالح أمريكا.
وهذا الضغط اليهودأيباك أقوى منظمات الضغط اليهودي في أمريكاي في واقع الحال متزايد، وهو اليوم - ولا شك - في أعلى صوره، ولقد كان مرشحو الرئاسة الأمريكية سابقًا يخطبون وُدَّ اليهود عن طريق زيارة لمؤتمراتهم أو مراكزهم، أما اليوم فالمرشح الأمريكي الذي يريد النجاح في الانتخابات لا بد له من زيارة إسرائيل!!
والأمر فعلاً يبدو عجيبًا، فلماذا يكلف المرشح الأمريكي نفسه الطيران لكل هذه المسافة، والذهاب إلى دولة أخرى لكي يدعم موقفه في الانتخابات؟!
بل إنه لا يتردد - حتى لو كان علمانيًّا صرفًا - أن يلبس الطاقية اليهودية، ويصلي صلاة اليهود أمام حائط المبكى (والأصح أنه حائط البراق).
إن القضية فعلاً قضية ضغط، وهذا الضغط بأكثر من وسيلة، وهو يحتاج إلى تفصيل، وسنفرد له عدة مقالات بإذن الله.
لكن ما يهمني في هذا الموقف أن أشير إلى أنني لا أذكر كل هذه الحقائق لأعلن انبهاري باليهود، أو خوفي من تسلطهم، فالله عز وجل أجلُّ وأعلى.. ولكن أذكر هذا حتى يعلم الذين يطمعون أن تحلَّ لهم أمريكا مشاكلهم، أو أن تساعدهم في إقامة وطن لهم في فلسطين إلى جوار اليهود، أو أن تقف موقفًا عادلاً في القضية، عليهم جميعًا أن يعلموا أن الأمر خارج عن يد أمريكا نفسها، وأنهم وإن كانوا يرون أحيانًا أن تصرفاتهم هي أقرب إلى الجنون إلا أنهم لا يستطيعون منعها! ومن ثَمَّ فلا معنى مطلقًا، لا شرعًا ولا عقلاً، أن يعتقد البعض أن الخروج من الأزمة يكمن في زيادة الولاء لأمريكا، أو في مزيد من الرضوخ لها.
أما الأمر الثاني الذي أحب أن أشير إليه، هو أن قصة اليهود في أمريكا ليست طويلة، وأن اليهود لم يرثوا وضعًا قويًّا من أسلافهم، ولا حبًّا في قلوب الأمريكيين، ولكنهم خططوا وعملوا وتعبوا واجتهدوا، فوصلوا إلى الوضع الذي نراه حاليًا، وقد قضت سنة الله عز وجل أن الذي يعمل في الدنيا ويتعب، فإنه يجني ثمار تعبه.. قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} [هود: 15].
حدث كل هذا على الرغم من أنهم قوم مُنكَرون، وهم كذلك مكروهون في قلوب العالمين بما فيهم الأمريكان أنفسهم، وهم فوق كل ذلك قلة قليلة، لكنها السنن الماضية، والقواعد الثابتة، وليس لنا من سبيل إلا أن نعمل بجدٍّ واجتهاد وصبر ومصابرة، وقبل ذلك وبعده أن نأوي إلى ركن شديد، ركن رب العالمين.
ونسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين.