حياكم الله
أمل النصر وحصاد التربية
كثيراً ما تحضرني عبارة قالتها هند بنت عتبة بيَّنت فيها أنها ربَّت معاويةَ ابنها ملكاً منذ طفولته . وكم أُعجبت بأخت قدمت نصيحة للأمهات على إحدى الإذاعات المحلية مفادها أن اجعلي طفلكِ مشروعكِ واعملي على تربيته عظيما ًمنذ حملك له جنيناً . وتحضرني أيضاً عبارة ترددها إحدى صديقاتي أنها تعامل ابنها على أنه قائد ومصلح عليه أن يترفع عمَّا يقوم به أبناء جيله من سلوكيات سطحية ساذجة.
ما دفعني لاسترجاع كل هذا في هو استذكاري للانتصارات والفتوحات التي تمَّت في شهر رمضان على مر عصور خلتْ.فمن نصر بدر إلى فتح مكة ومنه إلى انتصار المسلمين في القادسية ودحرهم للفرس في ملحمة أخرجت العِباد من عبادة العِباد إلى عبادة ربهم الواحد القهار.ثم فتح عمورية في هبّة معتصمية فريدة تبعها انتصار طارق بن زياد في الأندلس ومحمد بن القاسم في بلاد السند . بعدها سار بنا الزمن إلى حطين العزة وانتصار المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي وتحرير بيت المقدس من أيدي الصليبيين.ولن ينسى التاريخ انتصار المسلمين على التتار في عين جالوت بقيادة القائد قطز والظاهر بيبرس.كذلك لن تنسى أوروبا وصول الإسلام إليها على يد الفاتحين العثمانيين عندما فتحوا بلغراد ورفعوا فيها راية الإسلام.
تذكَّرت كل هذه الفتوحات والانتصارات الرمضانية وتذكَّرت معها قواداً عظاما ًقادوا جيوشاً وهم شباب فأسامة بن زيد قاد جيشاً في فترة حساسة في تاريخ الإسلام وهو في السادسة عشرة.ومحمد بن القاسم الشاب الذي فتح بلاد السند وهزم بخيله فيلتهم وقهرها بعزة الإسلام وقوته.ولن ننسى صِحاف الذهب التي بعث بها ملك الصين وفيها ترابها ليَبَر القائد الشاب يمينه بعد أن أقسم أن يدوس برجليه تراب الصين. أتذكَّر كل هذا وأنظر شبابنا هذه الأيام فأرى مَن بعُمْر أسامة بن زيد يمضي وقته في الألعاب الإلكترونية ومشاهدة الفضائيات ومَن بِعُمْر محمد بن القاسم يتسكع في الأسواق ويستعرض وسامته ليعلن عن وجوده في مهرجان طاووسي بليغ.
ويطرح السؤال نفسه : كيف ينشأ العظماء وكيف يتحقق النصر؟فيأتي الجواب أبلجاً واضحاً : مِن الداخل. مِن نفوسنا .فنحن مَن نلد ونحن مَن نرضع ونحن مَن نربي .ولن يكون أبناؤنا قادة وعظماء إلا إذا أردنا لهم أن يكونوا كذلك. هذا هو المشروع الضخم الذي تقع مسئوليته على عاتق كل أم.إنه مشروع العمر الذي يبدأ منذ الحمل فتبدأ معه رحلة التربية من خلال تطوير ذاتها وتثقيفها بأبجديات التربية لتنشئة جيل مؤمن بالله ورسوله.
لن أخوض في أسس التربية ووسائلها ونظرياتها فالحديث فيها قد تعدَّد والدراسات أشبعتها بحثاً وتفصيلاً. لكنني سأوجز في أمور بمقدور كل أم وكل أب القيام بها وهي ليست بمستحيلة لكنها تحتاج إيماناً ومتابعة من كلا الأبوين وتحتاج تآزراً بينهما وتعاوناً لتربية نشء مؤمن بالله حافظٍ لكتابه وعاملٍ لما شرع الله فيه.
كي يعمل المربي على غرس القيم وبذر الإيمان في نفس مَن يربي لابد من التمهيد قبل ذلك بالحب؛ إذ بدون الحب لن يستقبل الطفل شيئاً من أبويه.من أبسط وسائل بعث الحب لدى الطفل الرضاعة الطبيعية لما توفر له من تغذية كاملة وحنان ودفء . وإن التصاق الطفل بأمه أثناء الرضاعة يمكّنه من تمييز رائحتها وصوتها وربما خفق قلبها مما يوثِّق علاقته بها و مشاعره تجاهها.وقد أولى القرآن الكريم هذه النقطة عناية كبيرة فدعا إلى أن ترضع الأم طفلها عامين كاملين لحاجة الطفل النفسية والجسدية لها خلال هذين العامين" وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا... الآية" (البقرة: من الآية233)
بعد فترة الرضاعة وبدخول الطفل عامه الثالث تنمو قدرته على الحفظ وتتطور ملكته اللغوية فتظهر في هذه الفترة أهمية لجوء الأم إلى تحفيظه الآيات القرآنية البسيطة وشيئاً فشيئاً ومع مرور الوقت ودخوله سن السادسة يكون قد حفظ قدراً كبيراً من القرآن الكريم فينطلق للصلاة بإشراف الأبوين لتعليمه مبادئها حتى يدخل في السن الذي يُؤمر فيه الأطفال بالصلاة وهو سن السابعة قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ) رواه أبو داود ( 495 ) ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود "
فما أن يبلغ الطفل العاشرة إلا وهو معتاد على أداء الصلاة محب لها محترم لقدسيتها .
وبين كل هذا وذاك لابدَّ على الأبوين أن يركِّزا على سرد قصص السيرة والصحابة والتابعين التي تؤثر في نفسه وتبني بها منظومة من القيم السليمة وتظهر أمامه نموذجاً من الأبطال والعظماء يكونون مثلاً أعلى له بدل أن يبحث عن المثل بين الممثلين والمغنين والذين لا يسوقونه إلا إلى الخراب.
أمَّا ما نرى بين معظم الآباء والأمهات من استسهال الخطأ وزعمهم أن الطفل غير محاسب فهو من خلل كبير.إذ لا بدَّ من العمل على تنمية مهارة نقد الخطأ ورفضه لدى الطفل وتفريقه بين الحلال والحرام حتى يشب عليها كبيراً .فإننا إذا تساهلنا في هذا الأمر يصبح من الصعب عليه عندما يكبر أن يتمثل السليم من السلوكيات حيث هو لم يعتد على السير عليها بخطواته الغضة فكيف يسير عليها شاباً؟ يقول ابن القيم رحمه الله " والصبي وإن لم يكن مكلفاًً : فوليُّه مكلَّف ، لا يحل له تمكينه من المحرَّم , فإنه يعتاده ، ويعسر فطامه عنه .
" تحفة المودود بأحكام المولود " ( ص 162 )
وهذا نلحظه كثيراً في استهانة الأم بلباس بناتها بحجة أنهن صغيرات وغير مُكلفات بالحجاب بينما عليها أن تعودهن على لبس المستور حتى يصبح من السهل عليهن لبس حجابهن عند البلوغ والتكليف.كذلك استهانة الآباء والأمهات في النظر في المحرمات على الشاشات وسماع الأغاني وإطلاقها في البيوت. فكيف باللهِ عليكم بعد ذلك ننهى أبناءنا عن إتيان المنكر ونحن نستمتع به في حضورهم بحجة أنهم صغار غير مكلفين؟ وكم رأيتُ من أمهات يتابعن الأفلام والمسلسلات بحضور صغيراتهن بل وقد رأيتُ بعض الصغيرات تذكِّر أمها بموعد المسلسل أو بصاحب أغنية وعندما تكبر هذه الفتاة وتتمرد تيأس الأم وتقول " طلعت من إيدي" ألم يكن الأجدى أيتها الأم أن تربي ابنتك منذ صغرها على الصحيح السليم حتى تظل ملء يديك ولا تشذ عن الصواب؟
أمَّا الآباء فدورهم كبير في تعليم أبنائهم ومتابعتهم وعدم غض الطرف عن أخطائهم وما أكثرها إن نحن غضضنا عنها الطرف! يقول ابن القيم" فمَن أهمل تعليم ولده ما ينفعه ، وتركه سدى : فقد أساء غاية الإساءة ، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قِبَل الآباء ، وإهمالهم لهم ، وترك تعليمهم فرائض الدين وسنُنه ، فأضاعوهم صغاراًً ، فلم ينتفعوا بأنفسهم ، ولم ينفعوا آباءهم كباراًً .
" تحفة الودود " ( ص 229 )
فلا عجب فيمن أهمل ابنه ولم يعلِّمه ما له وما عليه أن ينشأ خارجاً عن طاعته متمرداً على قيم وسلوكيات لن ينفع أن نفرضها عليه كبيراً إن لم نربِّه عليها وليداً.إننا قبل أن نربي أولادنا علينا أن نربي أنفسنا بل وإن تربية الأبناء تسير جنباً إلى جنب مع تربيتنا لأنفسنا فهما عمليتان متزامنتان ومتفاعلتان فأنا أربي نفسي وأربي ابني وقد يربيني هو بدوره ولا عجب في ذلك ولا غضاضة.
إن التربية عناصر ثلاثة: منهج في التربية وقدوة حسنة وتوكل على الله ودعاء صالح بأن يكون الأبناء صالحين، لله عابدين، ولكتابه حافظين.أمَّا المنهج فهو كتاب الله وسنة نبيه وسير الصحابة والصالحين.وأمَّا القدوة الحسنة فهي الصور المشرقة التي يقدمها الآباء للأبناء فتكون نماذج لهم وقصصاً صالحة يروونها لأبنائهم عندما يكبرون. وأمَّا الدعاء فهو مظهر التوكل على الله بعد إتباع المنهج وتقديم الأسوة الحسنة.دعاؤنا نحن الآباء أن يوفِّق الله أبناءنا للطريق السوي والسبيل القويم وأن ينشأ الأبناء على طاعة الله وإتباع رسوله الكريم.
بهذا ننتصر وبهذا نربي قادةً همهم كبير وهممهم عالية ونفوسهم تحلّق فوق درن الأرض يحملون راية الحق ويحرزون النصر في علمهم وفكرهم وبيوتهم ومجتمعهم.